بحث متقدم
الزيارة
5832
محدثة عن: 2007/10/30
خلاصة السؤال
هل أن جمیع الموجودات یطالها الموت یوم القیامة الکبرى؟
السؤال
هل أن جمیع الموجودات یطالها الموت یوم القیامة الکبرى، بما فی ذلک ملک الموت، و لا یبقى إلاّ الله سبحانه؟
الجواب الإجمالي

سنجیب عن هذا السؤال فی قسمین، هما:

1- ماهیة الموت و شموله یوم القیامة.

2- المستثنون من الموت فی ذلک الیوم.

القسم الاوّل: إن موت کل شیء بنظر القرآن الکریم یأتی عند حلول (أجل) ذلک الشیء، و من هنا فإن جمیع الموجودات لها (أجل) و نتیجة ذلک أن الجمیع - بشراً کانوا أم غیر بشر - یموتون فی نهایة الأمر.

و إن تعیین کل أجل یرجع إلى الله تعالى الباقی الوحید الذی لا یطاله الفناء و إن الموت انتقال من الحیاة الفانیة إلى الحیاة الباقیة الخالدة عند الله، إن الموت الذی یطال کل الموجودات سوف یأتی یوم تقوم القیامة الکبرى و إن القیامة هی الساحة التی یحضر فیها الجمیع بین یدی الله سبحانه.

و یعتبر القرآن ابتداء و وقوع هذا الحادث عندما ینفخ فی الصور حیث یکون سبب الموت فی النفخة الاوّلى و سبب الإحیاء فی النفخة الثانیة، و لهذا هناک مجموعة من الآیات و الروایات تحکی عن طی بساط السماوات و الأرض، و مجموعة ثالثة تتحدث عن حضور الخلائق جمیعاً فی عرصة القیامة التی تمثل التجلی الکامل للحیاة الأبدیة الخالدة.

إن مطالعة هذه الآیات و الروایات و استیعاب مدلولاتها یفهم منه أن السماوات و الأرض و عالم البرزخ و کذلک جمیع من فیها حتى حملة العرش و الملائکة المقربین (جبرائیل و میکائیل و ملک الموت و إسرافیل) لا یکونون فی أمان من أهوال ذلک الیوم و ما یحدث بعد النفختین من موت شامل و حشر للجمیع.

القسم الثانی: الآیات و الروایات التی تقدم ذکرها و غیرها مما یماثلها کلها تبین هذه الظاهرة الکبرى، و إضافة إلى المسائل و المطالب التی قدمنا ذکرها، فإن النصوص توضح خصوصیات الأشخاص المستثنین من العذاب و المعاناة و الأهوال فی ذلک الیوم، و إنهم یدیمون حیاتهم فی أمن و أمان بعیداً عن کل هذه الحوادث. و طبقاً لبیان القرآن فإنهم یتمتعون بخصوصیتین کلیتین، و الخصوصیتان هما شیء واحد فی واقع الأمر عبر عنه بتعبیرین:

1- امتلاک الحسنة المحضة المطلقة و التنزه عن کل سیئة و دنیة.

2- الخلوص لله فی العبودیة فهم عباد مخلصون.

و هذه الفئة من الناس و نتیجةً لریاضة النفس و مجاهدتها تحررت من کل تعلقات الدنیا و الصور المثالیة البرزخیة و وصلت إلى حسابها فی الآخرة و سیقت إلى الجنة بشکل مباشر و انتهت إلى لقاء ربها و حطت رحالها هناک.

و فی النتیجة لایقفون فی البرزخ، و لا تعترضهم عقبات یوم القیامة، و فی حقیقة الأمر فإن هذه الفئة هی تجسید للقول: (موتوا قبل أن تموتوا).

و المصداق الکامل و الحقیقی لهذه الفئة هم المعصومون الأربعة عشر (ع)، مع أن الأنبیاء و الاوّلیاء و العارفین من الناس و المحبین و المتبرئین من الاعداء و المندرجین ضمن ولایة الأربعة عشر من هذه الذوات النورانیة، فإنهم یمثلون مصادیق الاستثناء و النجاة أیضاً کل بحسب مرتبته و درجته یوم تحل أهوال النفختین.

الجواب التفصيلي

من أجل إعطاء جواب شافٍ و مستوعب لهذا السؤال، لابد من توضیح ماهیة الموت یوم القیامة أوّلاً، ثم نتعرض للموت الذی یشمل الجمیع، ثم نجیب عن السؤال القائل: هل یوجد أشخاص لا تطالهم أهوال ذلک الیوم؟ و فی حالة وجود مثل هکذا أشخاص فما هی مشخصاتهم و صفاتهم؟ و من عسى أن یکونوا مصادیق هؤلاء الأفراد فی عالم الخارج؟

القسم الاوّل: و فی توضیح القسم الاوّل یمکن أن نقول: إن موت کل شیء فی نظر القرآن الکریم یأتی حینما یحین (أجله) و إن جمیع الموجودات - من الإنسان و غیر الإنسان - لها أجل محدود.[1] و کل الموجودات تسیر فی حرکتها باتجاه نقطة معینة ستکون النهایة بالنسبة لها و السکون و الکف عن الحرکة و بلوغ مرحلة الاستقرار، و نقطة الاستقرار هذه عند الله بحسب تعبیر القرآن الکریم، «وَ أَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ»،[2] و إن کل ما هو عند الله فإنه باق «وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ»،[3] و لذلک فإن الموجودات التی تنتهی إلى الله و تحضر عنده ستکون لها حیاة أبدیة و خالدة. و إن جمیع الموجودات سواء فی ذلک الإنسان و غیره فی حالة صیرورة باتجاه الله سبحانه و عاقبتها إلیه، و سوف تحضر بین یدیه و تحشر إلیه، و هذا الرجوع الشامل إلى الله هو (الموت) و یعرف بأنه: خروج من الحیاة المتصفة بالحرکة و الکون و الفساد و التغییر و الزمان، و الضیق و الظلمة و الکثرة و التفرق و ... و دخول الحیاة المتصفة بأنها عند الله التی تعتبر حیاة و بقاءً محضاً و خلود الحیاة المتصفة بأنها عند الله التی تعتبر حیاة و بقاءً محضاً و خلودا و رحابا و سعة و نورا و وحدة ... و إنها تتجلى من دون أن یُخالطها لون من ألوان النقص المتقدمة، إذن یمکننا أن نحصل على النتیجة التالیة: إن جمیع الموجودات من الإنسان و حتى السماوات و الأرض و جمیع ما فیهما سوف تواجه مثل هذا (الموت) بغض النظر عن الألفاظ المختلفة التی أشیر فیها إلى هذه الحقیقة، کما عبر عن خروج الروح بالنسبة للإنسان بلفظ الموت، و بلفظ آخر بالنسبة لغیر الإنسان، و هذا ما یأتی بیانه فی هذا المقال.

إن هذا الموت و الأجل الذی یشمل جمیع الموجودات و لا یترک شیئاً منها سوف یتحقق یوم القیامة الکبرى، و إنه سوف یحیط بکل الظواهر و الکائنات ما عدا الله سبحانه، و إن أجل الجمیع سوف یأتی و یحل یوم القیامة و سوف تقف جمیع الخلائق فی عرصة ذلک الیوم المسمى یوم القیامة، التی تمثل ساحة الحضور بین یدی الله سبحانه.

و بعبارة أخرى، أن فی یوم القیامة الکبرى و یوم البعث یطوى بساط السماوت و الأرض و عالم البرزخ، و کذلک یفنى جمیع من فی هذه العوالم (من أهل الدنیا و أهل البرزخ و الملائکة...) و عندها تقوم القیامة و یحشر الجمیع لدى الله سبحانه، و ینتهی الجمیع إلى الحیاة الأبدیة الخالدة المحضة. و إن بیان المشخصات و الأحوال و الخصوصیات التی تتصف بها (الحیاة عند الله) تحتاج إلى مقال مستقل.

و قد عبر القرآن عن منشأ هذه الواقعة و مبدأها بـ (نفخ الصور)[4] و إن هذا النفخ فی الصور هو سبب الموت الجماعی و کذلک سبب الحیاة و النشور بعد ذلک و القیامة بعد الموت، و کذلک ورد فی القرآن التعبیر عن هذه الحادثة بـ (الصیحة)،[5] و (الزجرة)،[6] و (الصاخة)،[7] (الصیحة الشدیدة) و (النقر فی الناقور)[8] و (النفخ فی آلة یخرج منها صوت)، و من مجموع هذه الألفاظ التی تعبر عن واقعیة واحدة یتحصل أن (الصور) و (نفختیه) کمثل ما یستعمل فی الجیوش من آلة تسمى (البوق) الذی ینفخ فیه لأوّل مرة تعبیراً و أمراً بالسکوت و الاستماع، ثم ینفخ فیه ثانیة کأمر بالحرکة و[9]... و قد وردت آیات و روایات کثیرة فی بیان و شرح هذه الحادثة المهولة العظمى، و على عدة مجموعات:

1- الآیات التی تؤکد أن النفخ فی الصور یتبعه الموت و الانطفاء الکامل و طوی بساط السموات و الأرض، مثل قوله: «فَإِذَا نُفِخَ فِی الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَ حُمِلَتِ الأَرْضُ وَ الْجِبَالُ فَدُکَّتَا دَکَّةً وَاحِدَةً * فَیَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ»[10]. و قوله: «یَوْمَ نَطْوِی السَّمَاءَ کَطَیِّ السِّجِلِّ لِلْکُتُبِ کَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِیدُهُ وَعْداً عَلَیْنَا إِنَّا کُنَّا فَاعِلِینَ»[11] و قوله: «مَطْوِیَّاتٌ بِیَمِینِهِ»،[12] و کذلک آیات أخرى[13] و الجمیع تخبر عن الحوادث التی تقع یوم القیامة إثر النفخ فی الصور الذی تحیط إشعاعاته و أمواجه بجمیع الکائنات.

و من خلال التعمق و التأمل فی مضامین هذه الآیات یمکن التوصل إلى کیفیة موت السماوات و الأرض و انطفاء الجمیع و هو عبارة: عن طی بساطها و تبدیل طبیعتها إلى ما یتناسب مع عرصة یوم القیامة.

2- المجموعة الثانیة: من الآیات و الروایات تدل على أن کل من فی السموات و الأرض یشمله الموت عندما ینفخ فی الصور، «وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِی الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَ کُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِینَ»،[14] «وَ نُفِخَ فِی الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِی السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِی الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِیَامٌ یَنْظُرُونَ»،[15] و (الفزع) یعنی الخوف الشدید و (صعق) أی غاب عن الوعی و الإحساس، و فی الحقیقة فإن هاتین الصفتین تبینان حقیقة الموت التی شرحناها فی بدایة هذا المقال، أی أنه الموت المصحوب بالخوف و فقدان الوعی الحاکی عن الموت، و إنه یشمل جمیع من فی السموات و الأرض.

و علیه أولاً: إن البرزخ هو تتمة للدنیا و تابع لها، و لهذا عبروا عن عالم القبر[16] و جنته بالقول (جنة الدنیا)،[17] و ثانیاً: إن أهل الدنیا جمیعاً لابد و أن یمروا بعالم البرزخ،[18] مروراً طویلاً أو قصیراً، و إن المراد بقوله (من فی الأرض) هم أهل الأرض الذین وردوا عالم البرزخ لا أولئک الذین کانوا یعیشون على سطح الأرض. و المراد فی قوله (من فی السموات) أرواح السعداء و الملائکة[19]، الموجودات التی تحررت من الصور المثالیة و قوالب عالم البرزخ، و استقرت(فی السموات) فی عالم فوق عالم البرزخ.

إن موت هاتین المجموعتین (أهل الأرض و أهل السموات) بسبب النفخ فی الصور، لا یعنی فقط أنهم غادروا النشأة الدنیا و ترکوا هذه الأجسام المادیة و حسب، و إنما تحرروا من الصور المثالیة و القوالب البرزخیة أیضاً. و ارتقوا إلى السموات، و حطوا الرحال بفناء ساحة المولى، و الفناء فی الذات الأحدیة المقدسة.

3- المجموعة الأخرى من الآیات تلقی الأضواء على نفخة الحیاة،[20] و بقاء جمیع أولئک الذین ماتوا أثر النفخة الاولى، و نتجاوز ذکر هذه الآیات فی هذه المقالة تجنباً للإطالة و توخیاً للاختصار.

و ذکرت أیضاً الروایات التی تشیر إلى المجامیع الثلاث من الآیات، نکتفی بذکر بعض مضامینها على وجه الاختصار. ینفخ فی الصور ملک باسم (اسرافیل) فیموت جمیع من فی السماوات و الأرض حتى حملة العرش (جبرائیل و میکائیل) و حتى اسرافیل یموت بعد ذلک بأمر الله،[21] و تفنى جمیع الأشیاء[22] و بعد فناء الدنیا لا یوجد زمان و لا مکان فتعدم الآجال و الأزمنة و لا وجود لوحدات الزمن من اللحظات و السنوات،[23] و لا یبقى شیء إلاّ الله الواحد القهار.

و ینفخ فی الصور مرة أخرى فیحیا جمیع من فی الأرض و السماء،[24] و تعود الأشیاء مرة أخرى کما خلقها خالقها.[25]

و المحصل من مجموع هذه الآیات و الروایات أن کل من فی السموات و الأرض و البرزخ یساقون حتى الملائکة المقربون لله عز و جل، فإنهم لیسوا بأمان من أهوال و عقبات ذلک الیوم المفزعة الرهیبة بعد النفختین فی الصور و الموت الجماعی و الحضور فی المحشر و ما یترتب علیه، و إن هذا الحادث المحیط سیشمل الجمیع دون تمییز.

و لکن مع وجود الآیات و الروایات المتقدمة هناک آیات و روایات أخرى تتحدث عن هذا الیوم و حوادثه، و إضافة إلى ما تحمل من معانٍ تقدم ذکرها، فإنها تنبئُ و تشیر إلى أوصاف و مشخصات فئة من العباد مستثنین من حوادث ذلک الیوم و ما یجری إثر النفختین من أهوال و عقبات و متاعب و أوصاب، و إنما یکونون فی أمن و أمان عما یجری فی ذلک الیوم من حوادث و اتفاقات و یدیمون حیاتهم دون تأثر بهذه الأحداث.

القسم الثانی: شرح و توصیف حالة عدد من أولئک الذین لم تشملهم تلک الحوادث دون تأثر بهذه الأحداث.

القسم الثانی: شرح و توصیف حالة عدد من أولئک الذین لم تشملهم تلک الحوادث کما جاء فی الآیات و الروایات.

ألف- فی الآیتین 67 من سورة الزمر، و 78 من سورة النمل، و اللتین تتحدثان عن النفخة الاولى، و بعد بیان ما یجری على أهل السموات و الأرض إثر النفخ فی الصور، و إنهم یتعرضون (للفزع) و (الصعق) تأتی عبارة الاستثناء فی قوله: «إلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ»، إشارة إلى وجود فئة تستثنى مما یصیب أهل السموات و الأرض من فزع و هلع إثر نفخة الصور، ثم تأتی الآیات 89 -90 من سورة النمل لتفسّر و توضح من هم المستثنون وتقول إنهم أصحاب الحسنات: « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ یَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ».

ب- کذلک فی الآیات التی تتحدث عن نفخة الحیاة نظیر الآیات 68 فی سورة الزمر و 53 فی سورة یس، و التی یفهم منها أن أولئک الذین تعرضوا للإماتة فی النفخة الاولى سیحضرون عند الله فی النفخة الثانیة حین ینشرون أحیاءً، و لکن الله یستثنی عباده (المخلصین) من هذا الإحضار کما جاء فی الآیة 127 و 128 فی سورة الصافات.

و علیه فإن أصحاب الحسنات و عباد الله المخلصین هم المستثنون من أحداث و مجریات النفختین و ما یجری على الجمیع أثرهما فیتمتعون بالأمان و الاطمئنان عند الله.

و عندما یتضح لدینا معنى هاتین الصیغیتین (الحسنة، و المخلصین) نتمکن من تشخیص أولئک المستثنین مما یجری فی ذلک الیوم. و لهذا ندرس الآیات و الروایات التی تذکر هذین المفهومین لنصل إلى معنیهما و مدلولیهما.

1- المراد من (الحسنة) (الحسنة المطلقة)، أی الحسنة التی لا تشوبها أی شائبة من السیئة، و إن أصحاب الحسنات المطلقة هم أفراد من أهل الإیمان، و إن ذواتهم خالیة و منزهة من کل الشوائب و مطهرة من کل رجس و دنیة و خالیة من أی لون من ألوان (النفاق) و (الکفر) و (الشرک) لم یسلموا قلوبهم لغیر الله تعالى، و قد أوکلوا جمیع أمورهم و شؤونهم إلیه، حتى وصلوا مرتبة التسلیم الکامل و التوکل المحض، و تجاوزوا ذلک، فخلت نفوسهم من أی شائبة و مظهر من مظاهر الاستکبار و الفرعونیة، و إنما شأنهم الفناء فی ذات الله، و هذه الخصائص تکشف عن مقام (الولایة).

و على هذا الأساس جاء التعبیر بلفظ (بالحسنة) کما تشیر الروایات. التی تفسر معنى هذه الآیة بولایة أمیر المؤمنین (ع).[26] و معرفة ولایة أهل البیت (ع) و محبتهم، و إن السیئة تعنی إنکار ولایتهم و إظهار البغض لأهل البیت (ع).[27]

2- المراد من المخلصین بحسب تعبیر الآیة «قَالَ فَبِعِزَّتِکَ لأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ * إِلاَّ عِبَادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ»،[28] إن امتیازهم عن الآخرین هو حفظهم و صیانتهم من إغواء الشیطان و حیث أن معنى إغواء الشیطان کما هو مضمون الآیة 22 من سورة إبراهیم هو وعوده الکاذبة و الوقوع فی حبائل هذا الخداع الکاذب و أن الطرف الآخر للوقوع بهذه الحبائل هو (الشرک) و الضلال. فالمخلصون من العباد إذاً هم أولئک المطهرون المنزهون من الشرک و الذین یلاقون الله خالصین مخلصین.

و بالتأمل و الدقة فی معنى المفهومین نجد أن کلیهما یبینان حقیقة واحدة. و علیه یمکن وصف الأفراد المستثنین من حوادث النفختین على الوجه التالی: إنهم العباد الذین لا یرون أی وجود سوى وجود الله، و لا یعرفون لغیره مقاماً و منزلة، و لیس لهم أی اختیار بالنسبة لما یصیبهم من نفع أو ضرر أو موت أو حیاة، و إن حقیقتهم و سرهم هو الفناء و الذوبان و الاستغراق بالله تعالى، کما أوکلوا کل أمورهم و شؤون حیاتهم إلى الحق سبحانه، و لم یصدر منهم إلاّ ما یجلب رضا الله و رضوانه، إیتاء (النوافل) و البحث عما فیه رضا الخالق هو دأبهم و شغلهم، و لذلک صار الله عیناً و سمعاً و یداً و لساناً و قلباً بالنسبة لهم.[29] و قد تحولوا - و من دون غلو - الى مرآة إلهیة صافیة، و إنهم یعکسون وجهه الکریم، و إن حقیقتهم تتمثل فی (وجه الله).

و (الوجه) هنا بمعنى الوجه الباطنی و حقیقة کل شیء التی تتوقف علیها معرفة الشیء الکاملة. و لا یمکن التوصل إلى تلک المعرفة إلاّ بها. و إن کون هؤلاء العباد هم وجه الله یعنی أنهم أکمل آیات الله و المرآة الصافیة التی تحکیه و تجلی (صورته) یقول تعالى: «کُلُّ شَیْءٍ هَالِکٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»،[30] و على هذا الأساس، عندما تفنى جمیع الخلائق بما فی ذلک السموات و الأرض و ما فیهما حتى الملائکة المقربون و أهل البرزخ أثر النفخة الاولى، فإن هؤلاء الأشخاص باقون، و لا یقترب الفناء و الزوال من حقیقتهم. و حیث أن وجودهم فان و ذائب فی الله تعالى و لم یبق لهم من وجود سوى وجوده و وجود وجهه، فلا یتوقفون فی البرزخ و لا فی القیامة و الحشر للحساب و السؤال و الجواب. ذلک لأنهم عندما کانوا فی الدنیا بلغوا مرتبة التحرر من کل تعلقاتها و آصارها من خلال الریاضات و المجاهدات النفسیة فی دائرة رضا الله و إرادته، إضافة إلى أنهم تحرروا من الصور المثالیة و القوالب البرزخیة، و وصلوا إلى حسابهم و کتابهم بشکل مباشر، فدخلوا جنة الذات و لقاء الخالق و حطوا رحالهم فی ساحته، إنه مکان الأمن الذی یبلغه السائرون لینعموا بالهدوء و الاطمئنان.[31]و لذلک فهم فی أمن و أمان من لذع تلک الحوادث الشاملة العظیمة التی تقع أثر نفختی الأماتة و الإحیاء، لأن ثمرة هذا الحادث العظیم هو بلوغ کل الموجودات و کل حسب استعداده و استیعاب ظرفه الوجودی للحیاة (عند الله). لأن هؤلاء العباد عاشوا حیاةً أکمل و أعلى مما یناله الآخرون إثر النفخة فی الصور.

و بالتدقیق بما تقدم یفهم أن هؤلاء العباد یمثلون المصداق الکامل لمقولة (موتوا قبل أن تموتوا) و بسبب وجودهم المتمثل (فی وجه الله)، فإن حشرهم و حضورهم یوم القیامة یختلف عن سائر المخلوقات. و بالتوجه إلى ما ورد فی الروایات من عبارات (الحسنة)[32] و (وجه الله)[33] و (الأسماء الحسنى)[34] و (الآیة الکبرى)[35] و نظائرها، فإن المصداق الکامل و الحقیقی لهؤلاء العباد هو الرسول الأکرم (ص) و أهل بیته الطیبون الطاهرون (ع) - و هم المعصومون الأربعة عشر - و أما الأنبیاء و الاولیاء و العارفون و المحبون و المنزهون من البغض و العداوة بالنسبة إلى هؤلاء العباد، فإن لهم مقامات و درجات بحسب ما لهم من مراتب وما یتسع له استعدادهم و ظرفیة وجودهم، و ذلک ضمن السیر فی خط الولایة و المحبة لهؤلاء الصفوة، فإنهم یکونون فی مراتب أدنى و أقل باعتبار کونهم مصادیق لمفهوم (العباد).

و فی الختام لابد من التذکیر أن هذا الحادث العظیم و الیوم المشهود - و نظراً لأهمیته و عظمته - فإنه یحتاج إلى تفصیل و شرح أوسع مما جاء فی هذا المقال، و لذلک ننصح بالرجوع إلى الکتب التی ألفت فی هذا الموضوع لمزید من المعلومات و الإیضاح بخصوص هذا الیوم العظیم و ما ینطوی علیه من أسرار و ما یضمن من حقائق.

مصادر للإطلاع:

1- الطهرانی، محمد حسین، المعاد، ج4.

2- جوادی الآملی، عبدالله، معاد در قرآن "المعاد فی القرآن" (التفسیر الموضوعی للقرآن)، ج4، ص281-297.

3- الطباطبائی، السید محمد حسین، حیات پس از مرگ" الحیاة بعد الموت"، ترجمة، مهدی نبوی و صادق لاریجانی، ص48-62.



[1] الروم، 8.

[2] الأنعام، 2.

[3] النحل، 96.

[4] النمل، 87؛ زمر، 68؛ الحاقة، 13-15؛ و ...

[5] یس، 53.

[6] النازعات، 13 و 14.

[7] عبس، 33 و 34.

[8] المدثر، 8 - 10.

[9] انظر: الحیاة بعد الموت، ص49 و 50.

[10] الحاقة، 13-15.

[11] الأنبیاء، 104.

[12] الزمر، 67.

[13] النازعات، 6 و 7؛ المزمل، 14؛ الحج، 1 و 2؛ التکویر، 3 و 4 و 6؛ القارعة، 5؛ القیامة، 9-7؛ کویر، 1؛ الانفطار، 2؛ و ...

[14] النمل، 87.

[15] الزمر، 68.

[16] تفسیر نور الثقلین، ج3، ص254.

[17] لئالی الأخبار، ج4، ص252.

[18] المؤمنون، 100.

[19] انظر: الحیاة بعد الموت، ص51.

[20] الزمر، 68؛ یس، 51 و 53؛ الکهف، 99؛ طه، 102؛ النبأ، 18؛ ق، 20 و 42 ؛ و ...

[21] الکافی، ج3، ص256.

[22] الاحتجاج، ج2، ص 245.

[23] نهج البلاغة، خ186، بند 29.

[24] الکافی، ج3، ص 256.

[25] الاحتجاج، ج2، ص245.

[26] تفسیر القمی؛ بحار الأنوار، ج7، ص117 و 175؛ ج24، ص45.

[27] الحاکم الحسکانی، شواهد التنزیل، ج1، ص426؛ کافی ج1، ص 185، ح14.

28]] ص، 82 و 83.

[29] الکافی، ج2، ص352 (حدیث قرب نوافل).

[30]مواضع ذات صلة: فناء الأشیاء على سطح الأرض (تفسیر الآیة 26 من سورة الرحمن)، رقم السؤال 868.

[31] الفجر، 27 - 30.

[32] بحار الأنوار، ج7، ص117 و 175؛ و ج24، ص45.

[33] نفس المصدر، ج4، ص 5 – 7؛ ج24، 114-116.

[34] نفس المصدر، ج25، ص4، ح7.

[35] نفس المصدر، ج23، ص206.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280273 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258850 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129648 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115694 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89575 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61076 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60380 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57382 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51659 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47724 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...