Please Wait
6116
لقد جرت سنة الطبیعة -التی وضعها الله تعالى- على عدم بقاء أی إنسانٍ على وجه هذه المعمورة، حیث إنهم یرحلون عنها الى دار الخلد لأسباب عدیدة، و من تلک الأسباب هو فقدان الصحة الجسدیة.
و من جانب آخر، بالرغم من أن الأنبیاء و الأئمة(ع)، فی بعض الحالات، کانوا یشافون ـ بإذن الله ـ المصابین بالأمراض من خلال الإعجاز (و ربما کان ذلک علم خاص لا یملکه الا أولیاء الله، فکانوا (ع) فی بعض الحالات الخاصة و بإذن الله یستخدمون هذا العلم)، و أیضاً فی بعض الحالات کانوا یقدمون وصایا من أجل الحفاظ على صحة و سلامة الناس، لکن هذا کله لا یعنی بأنهم یریدون مناقضة (معارضة) حکم الله أو أنهم یملکون علماً خاصاً فی صدورهم غیر الذی آتاه الله تعالى لهم، بحیث یحصنهم و أقرباءهم عن کل الأمراض و الآفات.
بل على العکس، کان أغلبهم ـ حسب ما نقل لنا التاریخ ـ یصابون بالأمراض، کما أن أقرباءهم و المنسوبین الیهم أیضاً کانوا یصابون بأمراض مختلفة، و یقضون نحبهم على أثرها، دون أن یقوم هؤلاء الکرام (ع) ـ رغم قدرتهم على ذلک! ـ بمعجزة أو عمل خارق للعادة من أجل إشفائهم؛ و طبعاً تطبیق الوصایا الطبیة ـ التی أشارت الروایات الى بعضها ـ یضمن سلامة الإنسان الى حدٍ ما. کما أنه یمکن معالجة بعض الأمراض بالدعاء أیضا، سواءاً کان الدعاء مباشرة الى الله أو بالتوسل الى أولیاء الله.
نعم قد یقال إنهم (ع) کانوا مطّلعین على علم الطب، و لکن هذا لا یعنی أن تعطّل العقول حتى هم (ع) یعرضون جمیع العلوم الى الناس .نعم هم مکلفون ببیان کل ما یمت الى هدایة البشریة بصلة بحیث لایترکون شیئا لم یبینوه للامة فی هذا المجال.
سوف نبحث تساؤولکم فی عدة مراحل:
1. هل یستطیع الناس أن یتمتعوا ـ الى الأبد ـ بالصحة الجسدیة؟
2. هل أنّ بعث الأنبیاء لأجل شفاء الأمراض الجسدیة؟
3. هل یجب على الناس البحث عن العافیة و الصحة؟ و اذا کانت الإجابة بنعم، فمن أی طریق؟
4. أساساً هل هناک فائدة للابتلاء بالأمراض و فقدان الصحة؟
و على ضوء هذه الأسئلة، نبحث جوانب الموضوع:
1. یحکمنا فی هذا الکون ناموس الهی، و هو أن نعیش فی هذه الدنیا الى أمدٍ محدود، ثم نرحل عنها الى عالمٍ لا فناء فیه و لا موت و لا مرض. إذن، لا مفرّ من الموت، هذا الجسر الذی ینتقل بالإنسان من الدنیا الى الآخرة، فلابد لکل انسان إن یمر علیه [1] ، و حتى الأنبیاء أیضاً لابد أن یخضعوا لهذا الناموس الإلهی [2] . و أما الحیاة التی تخلو عن المرض و الفقر و الخوف فهی الحیاة الآخرة لا الدنیا، فکل محاولة من أجل نسخ هذه النعم فی هذه الدنیا هی محکومة بالفشل!
و أما الموت فیمکن أن یتصوّر له حالتان، فی أحدهما یموت الانسان من دون أی علامة أو إنذار، فتراه یتمتع بالعافیة الکاملة و إذا برسول الموت یأتیه و ینزع روحه من جسده. کما نشاهد هذه الحالة فی بعض الموارد من حیاتنا الیومیة. و فی الحالة الثانیة، لا یأتی الموت فجأة و إنما تتقدّمه إنذارات یفهمها الانسان العاقل، کی یهیئ نفسه للموت و لو نسبیاً.
یُنقل أن الحالة الأولى کانت هی السنة الجاریة فی موت الناس فی زمن ابراهیم (ع)، کانوا یموتون فجأة و من دون أی علة مسبقة، فطلب ابراهیم (ع) من الله تعالى أن یجعل لهم علامات للموت، لتکون أجراً و جزاءاً للذی سوف یموت، و تصبّراً لأرحام المیت! فأنزل الله الآلام و الأمراض استجابة له [3] .
و هکذا صار الإنسان کلما تقدّم به العمر ضعفت طاقاته الجسدیة [4] الى أن یصل الى مرحلة «أرذل العمر» و قد یخرفّ و یفقد عقله فیها [5] . و کذلک المؤمنون ـ مثل سائر الناس ـ یصابون بشتى الأمراض و یموتون على أثرها، و مهما کان الابتلاء صعبا لا یلقون أنفسهم فی التهلکة ـ کالانتحارـ أبداً [6] .
2. لو تمعنّا فی أهداف الانبیاء و الأولیاء، لوجدنا أن الهدف الأساسی من رسالاتهم کان هدایة الناس و الدعوة الى الله و الیوم الآخر، فإنهم و إن امتلکوا مواهب متمیزة فی مجال الطب و الصناعة [7] ، إلا أنهم لم یرسلوا من أجل أن یذیع صیتهم فی الطب أو العمران أو الصناعة، و حتى لو استطاع بعضهم بإذن خاص من الله أن یشافی مریضاً أو اعادة البصر للعمی من الناس، أو یعالج ضریراً، أو یعید الحیاة الى میت [8] ، أو یشتهر فی صناعة الحدید فی عصره و یتقدّم على غیره [9] ، أو یتکلم مع الطیر و الحیوانات [10] ، و لکن بالرغم من ذلک فکل هذه المواهب تصبّ فی طریق الکمال و التعالی المعنوی للإنسان حتى و إن قلنا أن جمیع هذه المواهب هی عطاء خاص من الله تعالى لهم، و إلا فحتى الذین تشافوا بإعجاز الانبیاء أیضاً سقطوا فی فراش المرض فی یوم آخر و قضوا نحبهم و لا نجد الیوم فی حیاتنا المادیة أثراً لهم، بل کان الانبیاء و الأئمة أنفسهم أیضاً یصابون بالأمراض و تسلب عنهم العافیة الجسدیة، و مع ذلک لم یستعینوا بالأسرار و المعاجز لمعالجة أمراضهم، و إنما کانوا ـ کسائر الناس ـ یلتجئوا الى العلاج الطبیعی، و الدعاء، و المناجاة مع الله، و یطلبوا منه عزوجل أن یمنّ علیهم بالشفاء، فکانوا یقولون للناس بأن الشفاء بید الله دون غیره [11] .
و على کلّ، فلو قبلنا بأنهم کانوا مطّلعین على کل تفاصیل علم الطب و لکن هذا لا یعنی أن تعطّل عقول الناس لیقوم الانبیاء بعرض جمیع العلوم للعالمین، و إنما کانوا مکلّفین بتعلیم کل ما یخدم البشریة فی أمر الهدایة و قد فعلوا ذلک.
3. و لکن هل ما ذکرناه یعنی أن لا نعیر اهتماماً لصحتنا الجسدیة و لا نسعى لمعالجة الأمراض؟
قطعاً، هذه النظرة غیر صائبة. إذ نجد أن مولانا علیا (ع) یطلب من الله تعالى أن یقوی أعضاءه و جوارحه على أداء الواجبات الالهیة [12] ، و هذا المطلب لا ینال الّا بصحة الجسد و لذلک، و بالرغم من الرضا بمشیئة الله و التسلیم أمام مقدّراته لکن، یجب علینا أن ننتفع بالوسائل التی جعلها عزوجل فی متناول أیدینا، و من أهم وسائل الحفاظ على الصحة و الشفاء من الأمراض هو الجمع بین استعمال العلم و التجارب البشریة من جهة، و الدعاء الى الله و التوسل بأولیائه من جهة أخرى [13] .
1ـ3. قال رسول الله (ص): «تداووا، فما أنزل الله داء إلا أنزل معه دواء، الا السام ـ یعنی الموت ـ فإنه لا دواء له» [14] . و سئل الإمام الصادق (ع) عن الرجل یداویه الیهودی و النصرانی فقال:«لا بأس إنما الشفاء بید الله عز و جل» [15] .
و الروایات الموجودة فی هذا المجال کثیرة و لا یسع هذا المختصر جمیعها، لکن النتیجة المتوخاة من هذه الروایات هی، أن الله تعالى یحث الانسان على السعی فی سبیل تطویر علم الطب، فکما أن الرزق لا یأتی بالجلوس فی البیت و عدم السعی، أیضاً فلا یمکن أن نتوقع حصول السلامة من غیر طریقها المتعارف و نکتفی بطرق غیر متعارفة،.
و على هذا ، عند ما نجد فی بعض الروایات أن النبی (ص) و الأئمة (ع) یقدّمون وصایا طبیة من قبیل الحذر من الاجتناب عن الشبع [16] ، و تحمّل الأمراض السهلة قدر الإمکان [17] ، و الاجتناب عن التعرّض الى برد الخریف [18] ، الحمیة [19] ، و عشرات بل مئات الوصایا الأخرى، لنَعلَم أن معظم هذه الوصایا، تتفق مع المعاییر الطبیة و العلوم الحدیثة، و من بین هذه الوصایا نواجه وصیة مهمة أخرى، هی کالتالی: لا شفاء لمن کتم طبیبه داءه. [20]
و ببیان آخر، لو نظرنا للقضیة من جانب العلم الالهی، فربما وجدنا معادلات و وصایا أخرى تضمن صحة الانسان أکثر من هذا و تضمن حتى إحیاء الأموات، و لکن کما ذکرنا سابقاً، شاء الله أن لا یطّلع الانسان على کل تفاصیل هذه العلوم. نعم! یستطیع الانسان و من خلال بذل الجهد أن یطلع على بعض تفاصیل هذه العلوم التی تبحث عن صحة الجسد، و قد بنی علم الطب على هذه التفاصیل، و الاسلام لا یحث علیها فقط بل قدّم إرشاداته فی هذا المجال لمخاطبیه أیضا.
2ـ3. ینبغی الالتفات الى أن الدواء و العلاجات الاخرى لا تؤثر الا بإذن الله و ارادته، و على هذا الاساس یجب أن لا نغفل عن العامل المعنوی (الارتباط بالله تعالى و طلب العافیة منه) فی العلاج، لأنه عزو جل کما خلق الداء و دواءه یستطیع أن یضعّف أو یقوی نسبة تأثیر الدواء، و یجعل شیئاً مثل تربة الإمام الحسین (ع) دواءاً لأولیائه، و یُحرم الآخرین من التشافی بهذه التربة [21] .
4. علاوة على ذلک، إن الأمراض لا تخلو عن فوائد، منها أنها تنبه الانسان على أن الدنیا فانیة، و فوائد أخرى منها:
أ ـ أنها کفارة للمؤمنین و تخفیفاً لهم عن عذاب جهنم [22] .
ب ـ أن الأمراض تعوّض عن العبادة المستحبة عند الذین لم یوفّقوا ـ أیاً کان السبب ـ لأدائها، بحیث جاء فی بعض الروایات، َ سَهَرُ لَیْلَةٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ وَجَعٍ أَفْضَلُ وَ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ [23] .
ج ـ الانسان الذی لا یصاب بالأمراض سوف ینتهی الأمر به الى التمرد و الطغیان، و لکن الله عز وجل لا یحب العافیة مع التمرد و الطغیان [24] .
د ـ إن الأمراض، ترغّب الناس فی العیادة و زیارة المرضى، و هذه الزیارات تعزّز الأواصر الاجتماعیة السلیمة، و هی فی نفس الوقت تجلب أجراً و ثواباً کبیراً للزائرین [25] .
هـ إن الله لا یرید أن یعتمد الانسان على نفسه فی رفع جمیع احتیاجاته بل الحرکة الاقتصادیة بین أفراد المجتمع و عبر نشاطات متعددة هی التی تؤمن احتیاجاتهم و تربط بعضهم ببعض، و الابتلاء بأنواع الامراض، و إن کان فی بادئ الأمر مؤلم، و لکن لو نظرنا الیه بنظرة عامة، لعرفنا أنه یساهم فی تکامل و تطوّر العلم البشری، و من یصل من خلال الجهد و المثابرة الى معلومات حدیثة حول الصحة، سوف یستطیع أن یقتات بجهده و یؤمن عیشته من ذلک کما یستطیع خدمة الآخرین و معالجتهم بهذه المعلومات.
فإن الأطباء، و الممرّضین، و کل العاملین فی دوائر المستشفیات و المراکز المشابهة، و العاملین فی صناعة الأدویة و الصیدلة و غیرها من الصنائع المرتبطة بعلم الطب و ... هم مجموعة من الذین یعملون بجد فی سبیل الحفاظ على صحة الانسان و هذه المجموعة تشکّل نسبة کبیرة من هذه الحرکة الاقتصادیة.
و محصّل ما ذکرناه هو أنه رغم حتمیة الموت و استحالة مقاومته لکن یجب علینا أن نبحث عن الصحة و العافیة طوال حیاتنا، و طریق الحصول علیه، حسب التعالیم الدینیة، هو الالتزام بمعطیات الطب الحدیث، و الارتباط المعنوی بالله سبحانه و تعالى، و علینا أن لا نبحث علاجنا فی قضایا غریبة و خفیة .
[1] آل عمران، 185؛ الانبیاء، 35؛ العنکبوت، 57؛ و...(کل نفس ذائقة الموت).
[2] زمر، 30 (انک میت و إنهم میتون).
[3] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج 3، ص 111، الروایة1و2، دار الکتب الاسلامیة، طهران، 1365هـ ش.
[4] یس، 68 (و من نعمره ننکسه فی الخلق أفلا یعقلون).
[5] النحل70، الحج 5، (و منکم من یرد إلى أرذل العمر لکیلا یعلم من بعد علم شیئا).
[6] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی ج 3، ص 112، الروایة 8.
[7] کما کان أنبیاء الله کداوود و سلیمان و عیسى(ع) یعرضون أمام الناس مثل هذه القابلیات.
[8] آل عمران، 49؛ المائدة110؛ "و إذ تخرج الموتى بإذنی".
[9] الأنبیاء، 80؛ سبأ، 10، "... و ألنّا له الحدید".
[10] النمل، 28ـ 16.
[11] الشعراء، 80، "و اذا مرضت فهو یشفین".
[12] " قوّ على خدمتک جوارحی"، مقطع من دعاء کمیل.
[13] و لمزید من الإطلاع راجع الجواب 83 (الموقع:1012) و الجواب 618 (الموقع:676).
[14] المحدث نوری، مستدرک الوسائل، ج 16، ص 436، ح 20475، مؤسسة آل البیت، قم،
408ق.
[15] المصدر السابق، ص 437، ح 20477.
[16] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 63، ص 338، ح 35، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404
.
[17] آمدی، عبد الواحد، غرر الحکم و درر الکلم، ص 483، ح 11153، منشورات المکتب الاسلامی للإعلام. قم، 1366 ش.
[18] المصدر السابق، ح 11158.
[19] المصدر السابق، ح 11171.
[20] المصدر السابق، ح 11165.
[21] الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج 14، ص 522، ح 19737.
[22] المصدر السابق، ج 2، ص 398، ح 2455.
[23] المصدر السابق، ص 399، ح 2456.
[24] الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج 3، ص 114، ح 8.
[25] راجع: الحر العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ج 2، ص 414، الروایات المندرجة ی الباب 10.