بحث متقدم
الزيارة
6378
محدثة عن: 2011/05/16
خلاصة السؤال
طبقاً لقانون العلیة فان المعلول لا یتخلف عن علته، فکیف اذن ینسجم اختیار الانسان و إرادته مع هذا القانون؟
السؤال
یقال فی بحث قانون العلیة ان کل أمر حادث و ممکن یحتاج الی علة. فلابد ان تحصل علته التامة لکی یقع ذلک الشیء و یتحقق(سواء کان جسماً أو فعلاً) لان الشیء ما لم یجب لم یوجد، بمعنى أن المعلول لا یتخلف عن علته. انطلاقا من هذا کیف تنسجم ارادة الانسان و اختیاره مع هذا القانون؟ لان المفروض (و کما نشعر بالوجدان) أن الانسان یمکنه ان یفعل و أن یترک. و هذه الارادة و العزم أمر إمکانی و حادث عند الانسان و هو بالنتیجة یحتاج الی علة تامة. فاذا قلنا بان أحد اجزاء(او شروط او معدات)علته التامة هی نفس اختیار الانسان، فاختیار الانسان ایضاً هو أمر حادث و إمکانی و یحتاج الی علة، و مع وجود تلک العلة لا یتخلف ذلک الاختیار و الارادة و یکون صادراً دائماً، أ فلا یؤدی ذلک الی ضعف او تخصیص قانون العلیة؟
الجواب الإجمالي

لیس ملاک کون الافعال اختیاریة هو الاستقلال فی الوجود و کونها واجبة الوجود، و ذلک لانه لیس فی الکون شیء مستقل غیر الله. فملاک اختیاریة الافعال و عدم کونها جبریة فی الحکمة المتعالیة هو ان یکون الفعل مسبوقاً بالارادة فحسب، لا اشتراط عدم شموله بقانون العلیة.

الجواب التفصيلي

إن قانون العلیة لیس ضعیفاً و لا قابلاً للتخصیص، و لکن معرفته الصوریة فقط لا تکفی لفهم المسألة المطروحة. و قد ظن المتکلمون فی الاجابة عن هذا السؤال آن قاعدة (تلازم العلة و المعلول) تختص بالعلل الجبریة و التی تؤدی دورها من دون إختیار، و أما فی مورد الفاعل المختار کالانسان - موضوع السؤال المطروح- فانه حتی بعد تحقق جمیع أجزاء العلة یکون المجال أمام اختیار الفاعل و إنتخابه موجوداً، و الحال أن القاعدة العقلیة غیر قابلة للتخصیص ابداً[1]. فاذا کانت قاعدة (تلازم العلة و المعلول) نوعاً من الجبر، وجب أن یکون هذا الجبر صادقاً فی کل الموارد، و اذا کان اختیاراً یجب أن یشمل جمیع الفواعل أیضاً. و الحقیقة أن ملاک الجبر و کون الافعال بحیث لا تتنافی مع بحث العلیة فی الحکمة المتعالیة و کون الموجودات عین الربط و عدم اسقلالها لاعلاقة له بالله تعالی.

صحیح أن إرادة الانسان أمر حادث و علته بالتالی هو الله، و أن الانسان مجبر علی الاختیار و لکن السؤال هو هل أن هذا یؤدی الی کون الانسان مجبراً علی افعاله و أنه لا یمکن اسناد الافعال الی الانسان؟

و الجواب بالنفی، فان الارادة التکوینیة لله- علی اساس التوحید الافعالی- تشمل جمیع شؤون العالم و لکن ذلک لا یتنافی مع الارادة التشریعیة لله و التی تعنی أنه تعالی أمر الانسان بالخیر و اعطاه الاختیار فی انتخاب طریق الخیر و الابتعاد عن الشر. و بناء علی هذا فمع عدم خروج أی فعل تکویناً عن القدرة الالهیة -بعبارة أخری: أی مشمولاً لقضاء الله- و لکن رضاه منحصر فی الخیر، و ان سوء اختیار الانسان هو الذی یقوده الی انتخاب الشر. و ببیان آخر: لیس ملاک کون الافعال اختیاریة هو الاستقلال فی الوجود، و ذلک لانه لیس فی الکون شیء مستقل غیر الله، و ان العالم کله هو عین الربط بالله. بل ملاک عدم الجبر و کون الافعال اختیاریة علی رأی الملا صدرا هو کون الفعل مسبوقاً بالارادة فحسب، و لیس ان لا یکون مشمولاً لقانون العلیة، و لا یکون عین الربط بالله.

و من وجهة نظر اصالة الوجود و وحدة الوجود فی فلسفة ملا صدرا فان جمیع موجودات العالم(ما عدا الله) تشترک فی شیء واحد و هو النور الالهی الواحد الذی یسری و یجری فی جمیع الموجودات. و کل من هذه الموجودات هو شأن من شؤون الله- و من جملة الموجودات الانسان نفسه و إن ارادته و اختیاره و افعاله ایضاً تابعة لوجود الانسان. و بناء علی هذا فان للانسان فی نفسه مرتبة من الاختیار – بتبع مرتبة من الوجود- و هذا معنی ما یقال من أن ارادة و اختیار الانسان فی طول ارادة الله.

و بناء علی هذا فان قانون العلیة فی هذه الرؤیة ینطبق تماماً علی ارادة الانسان و اختیاره (حیث ان الاختیار نفسه له مراتب، و کل موجود قد فرض الیه مرتبة من مراتبه) و کلما ازداد الفقر الوجودی للانسان اشتد تجلی ارادته و اختیاره، لا ان یکون أسیر الجبر.

و علی هذا فللاختیار مراتب و اعلی مراتب الاختیار مختصة بالله تعالی، لانه لیس فقط لا یقع تحت تاثیر أی عامل خارجی، بل هو منزه عن التضاد فی المیول النفسیة ایضاً، ثم مرتبة اختیار و ارادة المجردات التامة. لانها تحت تسخیر الارادة الالهیة فحسب، و لکنها خاضعة للقضاء الداخلی و تسلط احد المیول علی الاخر، و اما النفوس المتعلقة بالمادة فان لها مرتبة نازلة من دائرة الاختیار و تتأثر ارادتها بعوامل خارجیة و داخلیة، و لکن الانسان اذا إهتم بنفسه و صار ذا ارادة الهیة، فسوف تکون منزلته اعلی من منزلة المجردات التامة، بل سیکون اختیار الانسان الذی هو موهبته الذاتیة فی اعلی درجات الارادة و الاختیار. و من هنا کان الاختیار – بالمعنی الخاص للکلمة- و الذی هو امانة الهیة و یشمل اکبر انتخاب فی عالم الوجود[2] مختصاً بالانسان.

ثم انه مضافاً الی ما ذکرناه من امور تبتنی علی سیاق الحکمة المتعالیة (المراتب التشکیکیة للوجود و الارادة) یمکننا ایراد جواب آخر ایضاً فی رؤیة عرفانیة رفیعة بالنسبة الی حقیقة ارادة الانسان و اختیاره، فان الانسان مادام لم یتعرف علی منزلته الحقیقیة فی عالم الوجود- أی مقام الخلافة الالهیة- فانه سوف لا یتعرف علی مقام الاختیار الرفیع، و سوف یبقی متزلزلاً و اسیراً للجبر و التضاد الحاصل من تأثیر عوامل غیر معرفیة. و فی هذه الرؤیة الحاصلة من عدم کمال الانسان، یری الانسان نفسه مجبراً فی کل شیء و لا یشعر بأی مسؤولیة، و الحال ان العلة التامة لارادة الانسان نفس نفسه أو نفسه الحقیقیة. و هنا تکون ارادة الانسان غیر ارادة الله، و یطلق علی الانسان الکامل انه مجری المشیئة الالهیة، و الانسان المختار هو الذی یستقر فی هذا المقام و لا یفر من المسؤولیة الناتجة عنه.

و فی الختام فان ذاتنا الحقیقیة قد اختفت وراء ذات کاذبة، و انما یمکن کشف النقاب عنها فی مسیرة معرفة النفس فحسب. و من هنا یکون الانسان فی النهایة باعتباره خلیفة الله و من فوضت الیه صلاحیة کبیرة من قبل الله، مسؤولاً عن تصرفاته، و ان کمال النسان هو فی تحمل هذه المسؤولیة. و الا فسیبقی اسیراً لانواع من الجبر، و الحال انه کان بامکانه ان یحول کل جبر الی اختیار. و ایضاً فان الانسان نفسه هو الذی اختار لنفسه بتوهم الجبر و الاجبار و العناد.

ان الانسان بمقدار معرفته بذاته و ما یصل الیه من معرفة بحقیقته و حاق وجوده، أی بمقدار اقترابه من مقام الإمامة (المظهر الکامل لله علی وجه الارض)، لا یصیر مسلطاً علی نفسه الامارة فحسب بل ستکون له القدرة علی التصرف فی غیره. و هنا تتحد الارادة الانسانیة مع الارادة الالهیة، و یحصل الانسان علی اعلی مرتبة من مراتب الاختیار. انها القدرة التی جاء الانسان بها الی هذا العالم و لکنه لیس له معرفة بها.

و بناء علی هذا فان قانون العلیة هنا بمعناه الالهی و قانون الربط و الفقر الوجودی، لیس فقط لا یؤدی الی الجبر، بل هو عین الاختیار، و ان الرابطة بین العلة و المعلول أی الرابطة بین الله و خلیفة الله، اختیاریة محضة خالصة و بتمام الوجود و هی التی تسمی بالعشق فی الادبیات العرفانیة.



[1] مصباح الیزدی،تعلیم الفلسفة،ج2،طهران،شرکة الطبع والنشرالدولی التابعة لمنشورات امیر کبیر،الطبعة الخامسة، شتاء 1383ش، ص58.

[2] (انا عرضنا الامانة علی السماوات والارض والجبال فابین ان یحملنها و أشفقن منها وحملها الانسان انه کان ظلوماً جهولاً)، الاحزاب: 72.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280273 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258850 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129648 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115694 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89575 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61076 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60380 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57382 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51659 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47724 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...