Please Wait
6691
الآیة الشریفة التی وقعت مورد السؤال، هی الآیة 29 من سورة التکویر و هی شبیهة بالآیة 30 من سورة الدهر (الإنسان)، و فی کلا السورتین جاءت الآیات المحیطة بالآیتین المذکورتین تتحدث عن القرآن و الآیات الإلهیة و تدرجها تحت عنوان (التذکرة) أو (الذکر) و أن الآیة 29 من سورة الدهر تکررت بعینها فی الآیة 19 من سورة المزمل، فبعد الآیة 29 من سورة الدهر جاء الکلام عن الآیات الإلهیة وأنها تذکرة، و أشارت إلى أی شخص یرید أن یتخذ إلى ربه سبیلاً، و کذلک عقیب الآیات 27 و 28 فی سورة التکویر التی جاء الکلام فیها عن کون القرآن (ذکراً) للعالمین، و أنه لأجل المؤمنین الراغبین فی السیر على الطریق المستقیم ثم یقول: «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».
و إنه من الممکن أن یقع البعض فی التوهم بعد قراءة قوله تعالى: «لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ» فی سورة التکویر و قوله: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً» فی سورة الدهر (و الآیة 19 من سورة المزمل) من الممکن أن یتوهم البعض أن (إرادة الاستقامة) و التلبس بثیاب الطاعة و العبودیة هی باختیار الإنسان على نحو الاستقلال، و على هذا فإن الله سبحانه طلب الاستقامة و اتخاذ السبیل إلى الله من العباد و هو محتاج لذلک. و لکن القرآن دفع هذا التوهم بهذه الآیات، و ذلک لأن مشیئة الأفراد و إرادتهم متفرعة و متوقفة على الإرادة الإلهیة و المشیئة الربانیة، حتى و إن کانت هذه المشیئة فی طریق العبودیة و السلوک إلى الله.
و مجیء الاستثناء بعد النفی إضافة إلى أنه یبین تأثیر الإرادة و المشیئة الإلهیة من خلال تعلقها بمشیئة العبد و أنها تتحقق بواسطتها فإنه یفهم أن الإنسان (العبد) لیس مستقلاً فی أداء أی شیء یرید إنجازه، و إن إرادته هی إرادة الله، مع کون أعماله اختیاریة متوقفة على إرادته و اختیاره.
و النتیجة هی: أوّلاً إن إرادة الأعمال السیئة لا تتعلق بإرادة الله بشکل مباشر، و ثانیاً: إن إرادة الإنسان و مشیئته لیس لها من تأثیر بدون مشیئة الله (التکوینیة) و إذنه، لأن أصل وجود الإنسان منه تعالى، و شاء أم أبى فإن إرادته هی الأخرى تکون من الله رب العالمین. و عدم استقلال الإنسان لا ینحصر فی إرادته فی السیر على الصراط المستقیم و الاستقامة علیه، و إنما فی کل شؤون وجوده هو محتاج إلى ربه و (کل من عند الله) و (لا عطاء إلاّ عطاءه).
و بعبارة أخرى: إن الإرادة و المشیئة الإلهیة إما أن تکون ذاتیة أو فعلیة، و الإرادة الفعلیة تارة تکون تکوینیة و أخرى تشریعیة.
و فی مرتبة الإرادة الذاتیة التی هی عین الصفات الذاتیة للحق تعالى، فلا سبیل لشیء أو أحد فی هذا المجال، و لیس لهذه المخلوقات أی ارتباط بهذه الإرادة، و أما فی مرحلة الإرادة التکوینیة الفعلیة، المتمثلة بخلق العالم الخارجی و تحققه خارجاً و عیناً فإنها إرادة الله و علمه و لم یکن یتحقق وجود لأی موجود فی هذه المرحلة حتى یقال أن له إرادة أو أن مشیئته و إرادته مستقلة. و لکن فی مرتبة الإرادة الفعلیة التشریعیة (إرسال الرسل و إنزال الکتب الإلهیة) یکون الإنسان مختاراً و مریداً، و إنه یعطى هذا الإذن على أساس الإرادة الفعلیة التکوینیة و الإذن التکوینی، و إنه حر فی اختیار طریق الحق و الرشد و السعادة، أو طریق الباطل و الغی و الشقاء. و مصیره فی الفرض الأوّل إلى الجنة، و فی الفرض الثانی إلى النار.
و لهذا فإن المیل إلى فعل السوء و القیام بأعمال الشر لا یوجد فیه انسجام ما بین الإرادة التکوینیة الفعلیة و الإرادة الفعلیة التشریعیة و إن الله لا یرضى بهذا الفعل على مستوى التشریع، مع أن الإذن الإلهی التکوینی یسمح بذلک، و لولا هذا الإذن لما تمکن أحد من القیام بأی فعل، بما فی ذلک المیل و الإرادة.
و من الجدیر بالذکر أن البعض یفهم معنى تفرع مشیئة الإنسان (العبد المؤمن) على مشیئة الله هو توقف رضا العبد على رضا ربه ثم شرع بتفاصیل أقسام الرضا و أنواعه و مراتبه و ... و لکن المناسب لسیاق الآیات المتقدمة، و المفهوم الأولی للآیة مورد السؤال هو ما بینا من المسائل بخصوصها.
الجواب عن هذا السؤال بشکل واضح و مستوعب یتطلب دراسة و دقة فی الآیات المتقدمة على الآیة و کذلک الآیات المشابهة لها فی السور الأخرى، مثل الآیات 29 و 30 من سورة الدهر (الإنسان) و الآیة 19 من سورة المزمل. و لنشرع بدراسة هذه المجموعات الثلاث من الآیات:
1- الآیة التی وردت فی السؤال هی الآیة 29 من سورة التکویر و هی سورة مکیة، و الآیتان السابقتان لها هما: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ لِلْعَالَمِینَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ»، و فی الآیة 29 یقول تعالى:«وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».
و خلاصة هذه الآیات أن القرآن الکریم هو کلام الله الحق، و لیس هو کلام الشیطان الرجیم: «وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَیْطَانٍ رَجِیمٍ»[1] ، تؤکد إن هو إلاّ ذکر للعالمین، و ذلک لمن أراد أن یکون على الطریق المستقیم فیکون القرآن ذکرا له.
و هنا من الممکن أن یتوهم المخاطبون بالآیة فی قوله تعالى: «لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ»، أن الاستقامة و السیر على الطریق المستقیم و التلبس بثیاب الطاعة و العبادة أمر متروک للإنسان وحده و هو من اختیاره على وجه الاستقلال، فإذا أراد أن یسلک هذا الطریق سلک و إذا أراد أن لا یسلک له ذلک. و على هذا الأساس فإن الله محتاج إلى الاستقامة التی طلبها من العباد، و لذلک جاء کلام الله دفعاً لهذا التوهم من العبد حیث کان خطابه على النحو التالی: «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».[2]
و بعبارة أخرى، فإن أعمال الإنسان الاختیاریة (و حتى إرادة الإنسان) فإنها إرادة الله و مشیئته بواسطة الإنسان و إرادته، و إن الذات الإلهیة المقدسة أرادت للإنسان أن تکون أعماله الاختیاریة تابعة لإرادته و اختیاره. و إذا کان الخطاب القرآنی موجهاً إلى المؤمنین القاصدین السیر فی طریق الله و الوصول إلى النجاة و السعادة، فهذا لا یعنی أن رسالة القرآن الکریم لا تختص بهذه الفئة فقط و إنما تشمل جمیع أفراد الإنسان.
2- الآیة الأخرى التی تشابه الآیة مورد البحث من عدة جهات هی الآیة 29 من سورة التکویر، و قسم من الآیة 30 من سورة الدهر و (الآیات التی قبلها) و فی الآیات 29 و 30 من هذه السورة یقول تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ». هذه الآیات الواردة فی ختام سورة الدهر (الإنسان) لها سیاق شبیه بالسیاق المکی، و إذا قبلنا هذا القول تکون أوائل السور مدنیة و ختامها - بمقدار تسع آیات - یکون مکیاً.[3]
توضیح الآیة (إن هذه تذکرة..) سوف یأتی فی القسم الثالث من البحث و لکن مفهوم و مراد الآیة (و ما تشاءون) شبیه بالآیة 19 من سورة التکویر.
و إن ابتداء الکلام بالنفی فی قوله: «و ما تشاءون» و بعد ذلک جاء بالاستثناء (إلاّ أن یشاء...) و أکمل به الکلام، فهذا یوضح و یبین أن وجود و تحقق مشیئة الإنسان (العبد) متوقف على مشیئة الله سبحانه. و من هنا فمشیئة الذات المقدسة تؤثر فی عمل الإنسان من خلال تعلقها بإرادته، و لکنها لا تتعلق بها بشکل مباشر و من دون واسطة حتى تأتی (الشبهة) التی تقول: إن إرادة الإنسان لا تأثیر لها على أعماله، و إن کل ما یفعله لیس من اختیاره، و لهذا فإذا ما فعل الإنسان القبیح أو مال إلیه فلیس ذلک بإرادته و إنما بإرادة إلهیة مباشرة، و علیه فمن الجائر أن تنسب إرادة الأعمال القبیحة إلى الله!
و من جهة أخرى، فإن هذا السیاق فی الآیة یفهم أن الإنسان غیر مستقل فی إرادته عندما یرید إنجاز أعماله و أن إرادته من إرادة الله سبحانه، و إن أعمال الإنسان اختیاریةٌ و بکونها تتصف بالاختیاریة فهی متوقفة على إرادته هو نفسه دون الاستناد إلى إرادة أخرى.
و النتیجة: هی أن مشیئة العبد و إرادته مرتبطة بمشیئة الله و إرادته، و إن هذه الإرادة لیس لها من تأثیر دون الإذن (التکوینی) ذلک أن أصل وجود الإنسان منه تعالى، و شاء الانسان أم أبى فإن إرادته سوف تکون من هذا المنبع الفیاض بالوجود.
3- و فی الآیة 19 من سورة المزمل، یقول تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً» و هذا مطابق لما جاء فی الآیة 29 من سورة الدهر. و الضمیر (هذه) یعود على الآیات المتقدمة التی جاءت بلغة الموعظة و الزجر، و إنها تتناسب مع کون السورة مکیة، خصوصاً تلک الآیات التی نزلت فی أوائل بعثة النبی (ص) أو الآیات التی جاءت فی سورة المزمل، و هی الآیات التی تشیر إلى الاستیقاظ لیلاً و التهجد تحت جنح اللیل، حتى اعتبرت سورة المزمل صلاة اللیل طریقاً خاصاً لهدایة العبد إلى ربه.
و على أی حال، فما جاء فی سورة المزمل و الدهر و الکلام عن (التذکرة) فی بعض الآیات أو (التهجد فی اللیل) بالنسبة للأشخاص الذین یبحثون عن طریق للتقرب إلى الله سبحانه (و اتخاذ السبیل)، أو ما جاء فی سورة التکویر، و هو أن کلام الله و خطابه موجه إلى العالمین، و لمن شاء أن یستقیم من المؤمنین و یسیر بخطى ثابتة على طریق الحق و إن کل هذا الکلام هو (ذکر)، فإن هذا الکلام الإلهی واضح و صریح و حاکٍ عن أن طریق الوصول إلى القرب الإلهی و جوار الله و السیر فی طریق الحق لا یمکن أن یتحقق إلاّ بما رسمه القرآن و الاهتداء بالهدایة الإلهیة و مشیئة الخالق سبحانه. و من جانب آخر فإنه یبین المسألة التالیة: حتى تلک النوایا الصالحة و المقاصد الرحمانیة و الإرادات الخیرة، فإنها لا تکون إلاّ بعنایة الله و فضله و إرادته و لولا فضل الله و إحسانه و کرمه و امتنانه، فلیس لشیء ولا لأحد من وجود و لا نور، و ذلک أن «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ»[4] و أن (القابل) أو (القابلیة) کلیهما من عنده، و من هنا قال الحکماء: (القابل من فیضه الأقدس).[5]
لا تحد عطاؤه قابلیة و استعداد.
و إنما عطاؤه شرط القابلیة و الاستعداد.
و بضم هذه المجموعات الثلاث من الآیات إلى بعضها، و الآیات الکثیرة الأخرى الموجودة فی القرآن الکریم، نستفید من ذلک القول (بالتوحید الأفعالی) فعندما تکون إرادة الإنسان فی جمیع الطاعات تابعة و متوقفة على إرادة الحق تعالى، و إن علم الله محیط بعلم العبد، تکون آثار و أفعال الإنسان أفعالاً و آثاراً إلهیة، و لا ینحصر الأمر فی القول: «وَ مَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لَکِنَّ اللَّهَ رَمَى»[6] و إنما أبعد من ذلک حیث أنه لا یرى أعماله من عند نفسه «کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»[7] و (لا عطاء إلاّ عطاؤه)[8] ینسى وجوده، و یطرد (أنانیته) فیکون مظهراً لأسماء الله و صفاته.
و لیس معنى هذا الکلام الجبر أو أنه مرکب من الجبر و التفویض و ..[9]، و إنما هو مفهوم بسیط و حقیقة متعالیة، و إن مشیئة العبد فی عین کونها مشیئته و إرادته، فهی مشیئة الحق و إرادته فی نفس الوقت.
من صفاء الشراب و لطافة الزجاج
امتزج لون الزجاج بالشراب
الکل زجاج و الکل شراب
أو الکل شراب و لا یوجد زجاج[10]
و یمکن أن نبین المطالب المتقدمة بکیفیة أخرى: إن إرادة الله و مشیئته إما (ذاتیة) أو (فعلیة) "الإرادة الذاتیة" هی، الإرادة التی تتحقق فی مرتبة الذات الإلهیة، و لها عینیة مع صفات الحق الأخرى، و هذه الإرادة الإلهیة هی العلم الإلهی، وإن معنى و مفهوم الإرادة المنسوبة إلى الإنسان لا یصح أن تنسب إلى الله. ففی الإرادة الذاتیة لا یوجد أی لون من ألوان الروابط و اللحاظ بالنسبة إلى الموجودات الخارجیة والنظام الحاکم على الحقائق العینیة.[11]
"الإرادة الفعلیة"، إرادة الله فی فعله و لها علاقة بموجودات عالم الخارج و هی تبلور و تجلی إرادة الذات المقدسة فی الخارج.
و تتحقق الإرادة الفعلیة تارة بصور التشریع و إرسال الرسل و إنزال الکتب لهدایة الناس بشکل عام، وإلى المؤمنین بصورة خاصة.
"الإرادة التشریعیة" و تتمثل بالقوانین و التشریعات و الأوامر والنواهی و (الطریق) و (الصراط) و (السبیل) لتشریعات الحق تعالى.[12]
و تارة على نحو "الإرادة التکوینیة" و المتمثلة بخلق عالم الوجود، و نظام القضاء و القدر الإلهی العینی، و التحقق العینی الخارجی للعلم الإلهی، و على أساس النظام الأحسن و العنایة و الحکمة الإلهیة وضعت الموجودات قدم وجودها بالإذن التکوینی حیث خرجت من ظلمة عالم العدم إلى نور الوجود و التحقق (سواء على مستوى أصل وجودها و جوهرها العینی الخاص، أو عوارض و لوازم وجودها) من أمثال إرادتها أو ...
و لهذا یمکن القول: لا وجود لإرادة أخرى فی إرادة الحق الذاتیة لیکون لها تأثیر و إرادة خلاف إرادته، و لا فی مرحلة إرادته الفعلیة التکوینیة یوجد موجود من نفسه لیکون له إرادة فی قبال الإرادة الإلهیة، أو أنه یتحقق مستقلاً دون إرادة المولى و إذنه التکوینی، و ان الإنسان مختار و مخیر على أساس إذن الباری و إرادته التکوینیة و الله هو الذی کون الإنسان و أراد له أن یکون حراً فی اختیار طریق الخیر و السعادة و الفلاح أو طریق الشقاء و الضلال و الخسران «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً»،[13] «وَ هَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ»،[14] و «قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ».[15]
و على أساس هذه الإرادة التکوینیة و الإذن التکوینی الإلهی و الاختیار فإن المخلوق، إما أن یسیر وفق التشریعات الإلهیة و یطیعها إطاعة محضة، و یصل عن طریق الإرادة التشریعیة إلى سعادته و إلى الخلود فی الجنة و هذا؛ یعنی الانسجام بین الإرادة التکوینیة و التشریعیة، أو أنه یعرض عن تلک التعالیم فینتهی إلى الشقاء و النار و الحریق و ذلک هو عدم الانسجام بین الإرادة التکوینیة و التشریعیة.
و بعبارة أخرى: مع أن الإنسان حر على أساس الإرادة التکوینیة فی أن یفعل الحسن و القبیح، و لکن على مستوى الإرادة التشریعیة الإلهیة جاءت على أساس إرادة الحسن و الخیر من الإنسان، و أما القبیح من الأعمال فذلک ما لم یرضه الله لعباده.
قال الإمام الرضا (ع) فی معرض الإجابة عن سؤال حول ما روی من قول الإمام الصادق (ع): «لا جبر و لا تفویض، و لکن أمر بین أمرین»، قال الإمام (ع): «... وجود السبیل إلى إتیان ما أمروا به و ترک ما نهوا عنه» یقول الراوی: فقلت له: فهل لله عز و جل مشیئة و إرادة فی ذلک؟ فقال: « فأما الطاعات فإرادة الله و مشیئته فیها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة علیها، و إرادته و مشیئته فی المعاصی النهی عنها و السخط لها و الخذلان».[16]
النتیجة: إن میل الإنسان إلى طریق الخسران و فعل القبیح غیر ممکن من دون إذن تکوینی إلهی، و لا یتحقق أی أمر فی الخارج (بما فی ذلک التفکیر و الإرادة و ...) دون الإرادة الإلهیة التکوینیة، و إن إرادة الله التکوینیة هی فی إعطاء العبد الحریة فی فعل (الحسن و القبیح) و الاختیار الکامل للسیر فی الاتجاه الذی یرید، و هذا لیس غیر مخالف للأهداف الإلهیة و حسب، و إنما هو طریق السعادة و الکمال الوحید فی التقرب إلى الله و لقائه، و کذلک طریق النقص و الشقاء و البعد عن الحق تعالى، و إن الجنة و النار تشخص على أساس التکلیف، و أساس تکلیف الإنسان على أساس حریته و اختیاره، و إن الله سبحانه و من خلال الباطن (العقل و الفطرة) و الخارج (إرسال الرسل و إنزال الکتب و هدایة الأئمة المعصومین علیهم السلام) هیأ طریق بلوغ النعمة و النعیم و الخلود فی الجنة، و طریق الشقاء و الخلود فی النار، طریق السعادة و الشقاء، الملک و الشیطان، الجنة و النار، و ... و هما طریقان منفصلان و سیبقیان کذلک.
ذکرت روایات و أحادیث عن أهل بیت العصمة و الطهارة بخصوص تفسیر الآیات مورد البحث، نعرض عن ذکرها طلباً للاختصار و بإمکان الراغبین فی الاستزادة حول هذا الموضوع الرجوع إلیها فی کتب التفاسیر و أسفار الحدیث.[17]
من الجدیر بالذکر أن البحث فی مسألة إرادة الله و إرادته الإنسان و العلاقة بینهما، و الجبر و الاختیار و الأمر بین الأمرین، خلق أفعال العباد، و ... و المشیئة الإلهیة و أقسامها، الفرق بین المشیئة و الإرادة، بحث واسع و متشعب و یتطلب مجالاً واسعاً، کما أنه موضوع غنی بلحاظ الآیات و الروایات و التفاسیر و کتب الکلام و الفلسفة والعرفان و کلمات العلماء و عظماء المسلمین و المعارف الإلهیة.
و فی النهایة، فإن ذکر هذه المسألة مفید و هو أن البعض فسر المشیئة و الإرادة (بالرضا) ثم استفاض فی موضوع الرضا و أنواعه و أقسامه و مراتبه، بمعنى أن إحدى الثمرات المترتبة على محبة ذات الحق (الرضا) و الرضا من المقامات العالیة للمقربین.[18] و الراضی لا یطلب شیئاً إلاّ رضا الحق تعالى، و إن إرادته و مشیئته فانیة فی إرادة المولى و مشیئته.[19]
إن رضاه هو رضا رب العالمین، و کل شخص یصل إلى مقام الرضا فإنه قد وصل إلى جمیع مراتب العبودیة... و الرضا اسم یجتمع فیه معانی العبودیة.[20]
ما أجمل أن یکون الرضا ثمرة لعشقه
فلا وجود لشرق و لا لغرب[21].
یقول اللاهیجی فی شرح کتاب "گلشن راز" بخصوص الرضا: إن حقیقة الرضا هی الخروج عن رضا النفس و الدخول فی رضا المحبوب، و أن یکون راضیاً بکل ما یرید الله له. و بکیفیة لا تکون له أی إرادة و داع غیر الإرادة الإلهیة «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ» و إن الراضی فی الحقیقة هو الشخص الذی یمکن أن یقال عنه أنه لیس له أی اعتراض على التقدیرات الإلهیة.[22]
و بقبول هذا التفسیر و النظر فإن العبد الحقیقی و السالک المجذوب و المحب الصادق، لیس له فی أی حال من الأحوال أی إرادة و أی میل إلى شیءٍ لیس فیه رضا المعبود و المحبوب، و إن إرادة الحق و رضاه خیر و جمال و طهر محض، و لا تتعلق بأی حال من الأحوال بالقبیح و السییء و غیر المحمود.
و لکن ما یفهم من الآیات القرآنیة مورد البحث بخصوص صیغة (المشیئة) یتفاوت مع مفهوم (الرضا) مع أنه من الممکن أن یترادف المفهومان من زاویة أخرى.
دراسة مسائل الجبر و الاختیار و مشیئة الله و الرضا و ... قابلة للتعمق و البحث على أساس رؤى مختلفة و نظریات متفاوتة، و فی حالة الرغبة فی ذلک یجرى إعلامنا و سوف نقوم بذلک.
[1] التکویر،25.
[2] انظر: العلامة الطباطبائی، محمد حسین، تفسیر المیزان، ج20، ص220-221.
[3] المیزان، ج20، ص120 و 131 و 140.
[4] نفس المصدر، ص69.
[5] الأشتیانی، المیرزا مهدی، تعلیقه بر شرح منظومه، (حکمت)" تعلیقة على شرح المنظومة، (الحکمة)"، ص27.
[6] الأنفال، 17.
[7] النساء، 78.
[8] دعاء الجوشن الکبیر، بند 55.
[9] انظر: مواضیع ذات صلة: الإنسان و الاختیار، المشیئة الإلهیة و إرادة الإنسان السؤال رقم 573، الأمر بین الأمرین.
[10] فخر الدین، الجامی، دیوان شعر، ص224.
[11] هناک کلام کثیر فی مورد الإرادة الذاتیة لله تعالى، و قد أنکر عدة من الحکماء الإرادة الذاتیة لله تعالى. انظر: نهایة الحکمة، ص296 - 307، الأسفار، ج6، ص307-368، ص379-413؛ ج2، ص135-136؛ ج6، ص384-385 و ...
[12] انظر: آموزش عقاید "تعلیم العقائد"، محمد تقی، مصباح، ص87-90، 164-166، 184؛ لنفس الکاتب، تعلیم الفلسفة، ص421-428؛ لنفس الکاتب أیضاً، معارف قرآن" معارف القرآن"، 1-3 ص133-146 و 195-202 و ...
[13] الإنسان، 3.
[14] البلد، 10.
[15] البقرة، 256.
[16] العطاردی، الشیخ عزیز الله، مسند الإمام الرضا (ع)، ج1، ص37.
[17] انظر: الصدوق، التوحید، الباب 55، باب المشیئة و الإرادة؛ بحار الأنوار، ج4، ص134-152، ج5 ص84-135، ج25 ص366 ، ج52 ص50؛ تفسیر الصافی، ج2، ص775 ، 793؛ المیزان، ج20، ص143 ، 144؛ الکافی، ج1، ص65-70.
[18] انظر: عبد الرزاق الکاشانی، شرح منازل السائرین، ص209.
[19] انظر: الإمام الخمینی، شرح الأربعون حدیثاً، ص217.
[20] مصباح الشریعة، باب 86، ص182.
[21] ثقافة دیوان، الإمام الخمینی، ص163؛ الإمام الخمینی، الدیوان، ص107 (سلطان العشق).
[22] اللاهیجی، عبد الرزاق، شرح گلشن راز، ص325.