Please Wait
7232
الرجوع إلى الله سبحانه الذي تشير إليه بعض الآيات القرآنية، لا يلزم معنى التقرّب المکاني منه، إذ أن القرب من الله بالمعنى المادي لا يمكن تصوره.
فالآيات التي تتحدث عن موت الإنسان تبيّن أن الإنسان بعد موته يرجع إلى الله سبحانه، لا أنه يتقرّب منه، حتى يُستنبط منها البعد منه في هذه الحياة الدنيا. و الرجوع إلى الله سبحانه بمعنى التحرّر من كل أسباب الحياة المادية، و دفع كل الحجب التي تحجبنا عن رؤية الواقع فيمكننا عندها رؤية المالك الحقيقي و علة الوجود بقلبٍ شفافٍ ثاقب البصیرة. و هذا الرجوع إلى الله لا يختص بالإنسان، بل كل الموجودات تعود يوماً ما إلى مبدأ الوجود.
الرجوع إلى الله سبحانه الذي تشير إليه بعض الآيات القرآنية، لا يلزم معنى التقرّب المادي و المکاني منه سبحانه.
و قبل الدخول في البحث لابد من الإشارة إلى معنى القرب و البعد الإلهيين:
غالباً ما تستعمل كلمتا القرب و البعد في معناهما المادي. إذ عندما نستعمل هاتان الكلمتان في الإجسام ينتقل ذهننا تلقائياً إلى المعنى المادي للكلمة. لكن بما أنه ثبت بالدليل العقلي بأن الإصطلاحات الخاصة بالماديات لا تستعمل فيما فوق المادة مطلقا أو تستعمل بضرب من المجاز، فلا نقول مثلاً عن الله إنه حالٌّ في مكان معين أو إنه له جسم ماديّ و غير ذلك، فمن الطبيعي لا يمكن تصوّر القرب و البعد الماديين بالنسبة له جل شأنه. إلا إذا لم نقصد المعنى الظاهري لهذه الألفاظ الخاصة بالمادّة.
إذن فاستعمال كلمتي القرب و البعد بالنسبة لله لا يمكن أن يُفهم منها معنى القرب و البعد المادي أبداً، بل يُفهم منها البعد المعنوي قطعاً. فيتحصل من ذلك أن القرب من الله سبحانه لا یقصد منه إلا القرب المعنوي و الروحي و البعد منه كذلك لا يكون إلا بمعنى البعد المعنوي و الروحي.
من هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يتقرّب الإنسان من الله سبحانه بموته حتى نقول بأنه كان بعيداً عنه في الدنياً؟!
يجب القول هنا، أولاً: لم يذكر القرآن بأن الإنسان يتقرب إلى الله بموته، بل يقول إنه يرجع إليه بموته، ثانياً: نحن نعلم بأن كثيراً من محبي الله سبحانه و مطيعي أوامره يعتبرون قريبين من الله أما أعداؤه فهم بعيدون منه حتى بعد موتهم إذ أن هذا القرب و البعد متعلّق بعمل الإنسان لا غير.
تشير الآيات القرآنية بأن الموت وسيلة لرجوع الإنسان لله سبحانه حيث يقول: "الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنهَّم مُّلَاقُواْ رَبهِّمْ وَ أَنهَّمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون".[1] "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون"[2] "وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّ قُلُوبهُمْ وَجِلَةٌ أَنهَّمْ إِلىَ رَبهِّمْ رَاجِعُون".[3]
و قد فسّر عدة من المفسّرين الرجوع إلى الله سبحانه بأنه رجوع إلى مكان يتضح فيه لنا بأن الملك كله لله فلا مالك غيره و لا يأتي بالنفع و الضرر إلا هو، كما كان في ابتداء الخلق و سنعود إلى ما كنا عليه أول الخلق، و سنبتعد عن كل لوازم الحياة في الدنيا و نرجع إلى مبدأ الوجود.[4]
و بعبارة أخرى، الرجوع إلى الله سبحانه یعني التحرّر من كل أسباب الحياة المادية و إزاحة كل الحجب التي تحجبنا عن رؤية الواقع فيمكننا عندها درك المالك الحقيقي و علة الوجود بشكل واضح.
و هذا الرجوع إلى الله لا يختص بالإنسان، بل إن كل الموجودات ترجع إلى خالق الوجود. و هذا الرجوع سيكون عن طريق تحوّل يشمل تمام عالم الوجود، كما يشير إلى هذا المعنى القرآن بقوله "وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون"[5] و "إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ الرُّجْعَى".[6]
فالنتيجة النهائية المتحصلة هنا هي أن جميع الموجودات ترجع إلى الله سبحانه، لكن لا يتقرب منه إلّا البعض منها.
[1] البقرة، 46.
[2] البقرة، 156.
[3] المؤمنون، 60.
[4] الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب، ج 3، ص 492، دار أحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1420 ق.
[5] الهود، 123.
[6] العلق، 8.