Please Wait
8038
فیما یخص مرجعیة و منشأ الإلزامات الأخلاقیة. و على أساس نظامنا الأخلاقی فإن کل مصدر و مرجع من المصادر المذکورة آنفاً یبنی جانباً خاصاً من جوانب الأخلاق و یحیی زاویة من زوایا النفس، فالعقل یبین لنا أساس الأخلاق و قواعده و یوضح لنا الالتزام و عدم الالتزام بهذه الأسس، فیقول العقل مثلاً: (لابد من وجود الأخلاق لتوفیر السلم و التعایش و....) أو ما تبینه المستقلات العقلیة فی دائرة ما ینبغی و ما لا ینبغی إضافة إلى بیان الأسس و القواعد العامة للأخلاق. و القرآن یبین لنا مراتب الأخلاق النهائیة بکل ظرافة و لطافة، و آل البیت (السنة) یجسدون لنا الأخلاق بصورتها العملیة، فالحدود و الأحکام الأخلاقیة التی یرسمها لنا العقل و الوحی یترجمها أهل البیت (السنة) بشکل عملی جمیل لنتذوق حلاوتها فی عالم العمل. و أما المشاهدات القلبیة التی تفتح أبواب القلوب بإشعاعاتها النورانیة فإنها تکشف لنا عن جوانب أخلاقیة أعمق و أشد سطوعاً و تألقاً حتى نتمکن من رؤیة واقع أعمالنا بإبصار القلوب و ندرکها برقة النفوس و شفافیتها.
تعددت الرؤى و اختلفت المتبنیات فیما یخص منشأ الأحکام الأخلاقیة و الأساس الذی تعتمد علیه، فهل أن الطبیعة هی الحاکم و المؤثر فی المسائل الأخلاقیة؟. أم العقل، أم المجتمع، أم الله، أم هناک عوامل أخرى؟.
و من الطبیعی فإن اعتماد أی مبنى أخلاقی یعنی أن هذا المبنى یرجع نظامه الأخلاقی إلى أسس و قواعد خاصة به، و بعبارة أخرى توجد علاقة و رابطة منطقیة و تناسب عقلانی بین النظام الأخلاقی و الأسس و المبانی التی یعتمد علیها، و علیه فلا یمکن إقحام أی إلزام أخلاقی فی أی نظام أخلاقی و فرضه علیه من خارج منظومته[1].
و من أجل بیان دور کل أساس و مصدر من المصادر المتقدمة نفضل الابتداء بإیضاح دور العقل و النقل (القرآن و السنة) بشکل إجمالی، و من ثم نتابع البحث عن دور کل مصدر و مرجع على حدة أی العقل، القرآن، السنة، الشهود.
دور العقل و النقل فی الأخلاق:
توجد ثلاثة اتجاهات فی الفکر الإسلامی المتقدم بخصوص دور العقل و النقل، أحدهما یعتبر النقل محوراً أساسیاً، و الثانی یرجع العقل و یعطیه الأولویة و الاتجاه الثالث وسطٌ بین الاتجاهین.
1ـ على أساس الرأی الأول فإن الحکم على الحسن و القبح مختصٌ بالله تعالى، فالحسن ما أمر به الشارع و القبیح ما نهى عنه الشارع، لأن المسألة بحسب هذا الاتجاه خارج قدرة العقل و إمکاناته[2]. و قد تبنت فئات عدیدة من أهل السنة هذا الاتجاه کأهل الحدیث، و الحشویة، و الحنابلة و کذلک الإخباریون من الشیعة، و بحسب هذا الاتجاه فإن دور العقل لا یعدو کونه خادماً للدین، و ما هو إلا وسیلة لفهم مفاهیمه و مقاصده[3].
2ـ و أما الاتجاه الثانی فإنه یرى أن العقل قادر على معرفة الحسن و القبح مستقلاً و دون الحاجة إلى الشرع، و قد اشتهر هذا الاتجاه ( بالمنهج الإفراطی فی الاعتماد علی دور العقل)، فکان فی صراع دائم مع المنهج الاول الذی حاول اقصاء العقل عن الساحة و لشدید الاسف کانت الغلبة لاصحاب المنهج الاول تحت حمایة الحکام و السلاطین الذین دعموا منهجهم الرافض للعقل مما ترک آثاراً سلبیة کبیرة علی الفکر الاسلامی. [4].
3ـ و إلى جانب الاتجاهین غیر المتکاملین المتقدمین ظهر اتجاه ثالث فیما یخص معرفة الحسن و القبیح ووضع الحدود بینهما فی دائرة الأخلاق، و هذا الاتجاه یمثل القاعدة و الأساس للفکر الشیعی الذی یعبر عن العقل الإسلامی فی رؤیته الوسطیة.
و إن دراسة هذا الاتجاه ـ و إن کانت بإیجاز ـ تتطلب التذکیر بعدة نقاط منها:
أ ـ إن وسائل و مصادر المعرفة لدى الإنسان ( فی الأفراد العادیین بغض النظر عن الوحی و الشهود) منحصرة بالحس و العقل.
ب ـ الإدراک الحسی یعتمد على الحواس الظاهریة التی تکون فی تماسٍ مع العالم المادی الخارجی، و هذا الإدراک محدود جداً و لا یمکن الاعتماد علیه فی تشخیص الاتجاه الصحیح فی الحیاة و بکل أبعادها[5]، إضافة إلى أن الحس کثیراً ما یخطأ و یعجز عن التشخیص.
ج ـ النشاط العقلی لا یعدو کونه وسیلة لإدراک سلسلة من المفاهیم الکلیة و البدیهیات الأولیة، و هذه القضایا لا تکفی هی الأخرى فی تشخیص و تعیین الاتجاه الصحیح فی الحیاة و رسم کامل أبعاده، و غایة ما توصل إلیه هذا النوع من المعرفة هو إثبات سلسلة من المسائل الفلسفیة المحضة کإثبات وجود الله تعالى[6].
6ـ إذا لاحظنا النقص و العجز فی الوسائل المتقدمة لدى الفکر القدیم، و أنها غیر قادرة على تعیین برنامج دقیق لمسیر الحیاة. بحیث ینتهی بها إلى السعادة الأبدیة و الکمال الأخروی من جهة. و من جهة أخرى فإن الله سبحانه حکیم و أنه خلق الإنسان لیصل إلى السعادة الأبدیة عن طریق أعماله الاختیاریة فلا یعقل أن یترکه دون أن یضع فیه إمکانیة المعرفة اللازمة التی توصله إلى الهدف الذی خلق من أجله، و النتیجة هی أن الله تعالى وضع المعرفة اللازمة للوصول إلى الهدف تحت تصرف الجمیع، و أنه رسم لکل الناس طریق سعادتهم و فلاحهم، بحیث یتمکن الإنسان أن یشخص الهدف و کیفیة الوصول إلیه من خلال تلک المعرفة، و ما هذا الطریق إلا طریق الوحی و النبوة[7].
و قد أشار القرآن الکریم إلى هذه الحقیقة فی قوله تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ لِئَلاَّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ کَانَ اللهُ عَزِیزاً حَکِیماً»[8].
هـ ـ و من زاویة أخرى مع قصور العقل عن رسم الخطوط العریضة لمسیر الحیاة فلابد من التذکیر بأن إرادة الحسن و القبیح و تشخیصهما لیس من قبیل العواطف و الأحاسیس الصرفة بالنسبة للإنسان، و لا هی قرار محض، و لا هی أمر إلهی، و إنما هی مفاهیم حقیقیة و خارجیة، و من الطبیعی أنها لیست على شکل مفاهیم ماهویة لها ما بإزاء عینی و مستقل فی الخارج، و إنما هی من قبیل المفاهیم الفلسفیة التی لها منشأ انتزاع خارجی تماماً کما هو الحال بالنسبة للجمال الحسی، فإن حقیقة الجمال تتمثل فی التناسب بین شیئین. و هذا التناسب بین حقیقتین عینیتین خارجیتین لا تعتمد على ذوق الأفراد و مزاجهم، و الشیء نفسه یجری فی دائرة الأخلاق و تشخیص الحسن و القبیح، أی یجری النظر فی حقیقتین عینیتین خارجیتین، أحد أطرافها فعل الإنسان الاختیاری و الطرف الآخر کماله الواقعی العینی، فیقال کل فعل ینتهی إلى کمال الإنسان المطلوب و یقع فی طریق خدمة هذا الکمال فهو فعل حسن، و کل فعل یبعد الإنسان عن مسیره إلى الکمال المنشود فإنه فعل قبیح. و على هذا الأساس فالقبیح و الحسن صفة تلحق الأعمال الاختیاریة للإنسان بعد التأمل و الموازنة و معرفة التناسب بینها و بین الکمال المطلوب فهی إذن لیست تابعة لذوق الإنسان و میله أو قراره.
و هنا مع أن میزان تشخیص الحسن من القبیح هو العقل، إلا أننا نواجه مشکلة فی تحدید و تشخیص الکمال المطلق من جهة، و من جهة أخرى فإننا نجهل العلاقة بین الأعمال و النتائج المترتبة علیها فی کثیر من الموارد، لأنه من الممکن أن یظن کل شخص أن الکمال فی شیءٍ معین فأرسطو مثلاً کان یعتبر کمال الإنسان فی اعتدال قواه الثلاث: الغضبیة، و الشهویة، و العاقلة...
و خلاصة القول: أنه لا یوجد ضمان فی أن العقل قادر على تشخیص الکمال النهائی بدقة، أو یشخص العلاقة بین أعمال الإنسان الاختیاریة و الکمال المنشود، أی أنه یدرک أن هذا العمل یترک الأثر المعین المشخص فی الوصول إلى الکمال، و هل أنه یقربه إلى کماله أم یبعده عنه، و لذلک و من أجل اجتناب الوقوع بنوعی الخطأ المتقدمین کان من اللازم على الإنسان أن یرجع إلى الشرع و ما أمر به الله للتعرف على ذلک[9].
و خلاصة القول أن ما یدرکه العقل من العلاقة بین أفعال الإنسان و الکمال النهائی لا تتعدى نوعاً من المفاهیم الکلیة لیس لها ذلک التأثیر و الفعالیة فی تعیین المصادیق و الأحکام الأخلاقیة، فمثلاً نحن نعلم بواسطة العقل أن العدل حسن أو أن العبادة أمر حسن، و لکن ما الذی یقتضیه العدل فی کل مورد و مصداق بعینه و أی سلوک یؤدی بنا إلى العدل؟، لا یمکن للعقل أن ینیر لنا الطریق بهذا الخصوص و کذلک فالعقل یحکم بوجوب العبادة للخالق و صاحب الفضل و النعم، و لکن کیف و بأی صورة؟.
إلى هنا لا یستطیع العقل بمفرده أن یجیب عن هذا التساؤل.
و بعد هذا البیان الکلی نشرع فی تحدید دور کل مصدر و منشأ على حدة:
العقل و معنى کونه أساساً للأخلاق:
إن مفهوم کون الشیء أساساً، و قاعدة أنه ثابت لا یتغیر، أی أن الحقیقة هی حقیقة دائماً ولا یمکن أن تتغیر، و إذا لم تکن حقیقة فهی لیست کذلک دائماً، و فی نظر العلماء المسلمین فإن مبانی الأخلاق و الأسس التی تعتمد علیها مفاهیم ثابتة لا تتغیر، و هذا بحث عقلی، فالعقل هو الذی یحکم هل أن المفاهیم الأخلاقیة مطلقة أم نسبیة، و بعبارة أخرى ثابتة أم متغیرة. فالعقل مقدمة لاستنتاج جمیع الأسس و القواعد الأخلاقیة.
فنحن نمتلک أحکاماً أخلاقیة من جهة المعنى، و کذلک فإننا نحتاج إلى العقل عندما نأخذ حکماً أخلاقیاً من الکتاب و السنة لإثبات وجوب العمل به. فمثلاً نقول ان الشرع یحکم بوجوب احترام الوالدین، و أن من یتخلف عن هذا الحکم سوف یلاقی العذاب الشدید فی الدنیا و الآخرة، و هذا قیاس عقلی على الرغم من انطلاق مقدمته من الشرع، و کذلک فإن العقل یبرهن لنا أساس و أصل الالتزام بالأخلاق، فإذا عدمت الأخلاق فإن الأواصر الاجتماعیة تؤول إلى الإنحلال و التفسخ.
و على أساس ما تقدم فإن مرجعیة العقل بالنسبة للأخلاق تتلخص فی الآتی: إن العقل یعرف و یشخص ما ینبغی و ما لا ینبغی فی المستقلات العقلیة إضافة إلى تعریف الأصول الأخلاقیة العامة و الکلیة.
و یضاف إلى ذلک لا بد و أن یکون إیمان المؤمن مستنداً إلى أسس من المعرفة العقلیة الواقعیة من خلال الاستدلال المحکم[10].
القرآن:
عرف القرآن بأنه المرجع الأساسی لمعرفة الدین، و هذا الأمر أشار إلیه القرآن عدة مرات، حیث یخاطب الباری الناس بقوله: «وَ یُعَلِّمُکُمْ مَا لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ»[11] فلم یقل هنا «إنه علمکم ما لم تعلموا» و إنما قال إنه یعلمکم ما لا تملکون طریقةً و وسیلة لتعلمه، بمعنى أنه أتاکم بأمور خارجة عن قدرة مدارککم المتعارفة، فحس الإنسان، و وهم الإنسان و خیال الإنسان و عقله لا تملک طریقاً إلى فهم هذه الأمور، و هذا التعبیر کثیراً ما یأتی فی القرآن عقب بیان حکمٍ معین، فإنه یطرح الحکم أولاً، ثم یعقبه بالعبارة التی مؤداها أنکم غیر قادرین على معرفة هذه الأحکام بواسطة عقولکم[12]. و هذا یعنی أن العقل ما کان و لن یکون قادراً على الإجابة عن کل ما یطلبه الإنسان فی مسیرة حیاته و تلبیة جمیع حاجاته، و لولا وجود الکتب السماویة لعجز الإنسان عن الوصول إلى الکثیر من الواقعیات بواسطة عقله.
و إن هذا الکتاب یخفی الکثیر من الرموز کما هو الحال بالنسبة إلى طبیعة التکوین، و لکن یوجد اختلاف بین الکتابین کتاب التکوین، و کتاب التشریع، فلعالم التشریع لغته الخاصة التی تکشف عن أسراره، و قد ظل لسنوات طویلة یدعو بنی البشر بهذا اللسان إلى أفضل السبل.
و على هذا الأساس فإن العقل یهدینا إلى مجموعة من الحقائق، و من جملة ما یحکم به العقل قصوره و عجزه عن إدراک الکثیر من الأمور، لأن مقدمات إدراکها خارجة عن اختیار العقل، و لذلک یضع العقل أیدینا بید کتاب الله خالق العقل و یقول بعد أن یسیر بنا إلى مسافة ثم یقول: إلى هنا و إذا أردتم الاستمرار فی المسیر علیکم أن تلتزموا بهدی هذا الکتاب.
و خلاصة القول: على الرغم من قدرة العقل على إدراک و وصف ما ینبغی و ما لا ینبغی فی المستقلات العقلیة و تعریف أصول الأخلاق و قواعده الکلیة، إلا أنه محتاج إلى القرآن و السنة فیما یخص الأمور الدقیقة التفصیلیة فی عالم الأخلاق.
السنة:
مع أن السنة مصدر من مصادر معارف الدین و من جملتها الأخلاق، و لکن لابد من التوجه إلى أن السنة تفسیر و شرح للقرآن الکریم، فی حقیقة الأمر سواء کانت السنة أقوال المعصومین و خطبهم أم أنها أفعالهم و سلوکهم، فالسنة على أی حال مبینة لآیات القرآن و کاشفة عن مفادها، لأن القرآن شهد لنفسه بشمولیته و استیعابه لکل ما یحتاجه البشر إلى یوم القیامة[13].
و من الطبیعی أن الاستفادة من هذا المصدر العظیم و المنبع الثر یتوقف على مقدار امتلاکنا لمنهجیة الاستفادة منه.
إن القواعد و المناهج المتعلقة بکیفیة التعامل مع القرآن الکریم و الاستفادة منه لا بد و أن نبحث عنها فی السنة.
و لا نتردد فی القول أن القرآن غیر کافٍ لسعادة البشر من دون السنة ذلک لأن القرآن یطرح القوانین الکلیة أولاً، و کیفیة الاستفادة من هذه القوانین یرجع به إلى السنة، و ثانیاً فإن القانون الجید لا یکفی لتأمین السعادة ما لم یطبق بدقة و مهارة، و إن إشارة القرآن إلى النبی (ص) و أهل بیته علیهم السلام بعنوان الأسوة و القدوة الحسنة یتضمن هذا المعنى، فالقانون الراقی یحتاج مطبقاً واعیاً و دقیقاً، فما لم یلبس القانون ثوب العمل لا یمکن الإحساس بحلاوته و تذوق حسنه و معرفة قیمته، و لکن عندما یدرک مطبقوا القانون أبعاده بشکل جید و یفهموا مضامینه و من ثم یشرعون فی تطبیقه على حیاة المجتمع و یشاهد الجمیع ثمار هذا التطبیق و الإجراء فحین ذاک یعلم ما ینطوی علیه القانون من دقة و لطافة و حسن.
الشهود:
طریق الإشراق هو الطریق الثالث الذی یأتی من بعد طریق الحس و التعقل، فکأنه یقال أن کشف الحقائق یتم بطرق ثلاثة، فأصحاب الظاهر یرونها من خلال الحس، و أصحاب العقل بالدلیل و البرهان و أما أصحاب النظر الثاقب فیستعینون بالإلهام و الإشراق من العالم العلوی لکشف الحقائق[14].
إن شهود الواقعیة معرفة نورانیة لا یمکن إنکارها من قبل العلم. و بعبارة أخرى فإن جانب الحقیقة التجریبی یعرف عن طریق الحواس و جانبها العقلانی یعرف عن طریق الاستدلال المنطقی و الریاضی، و أما جانب ما وراء الحس و الاستدلال فیعرف بواسطة الإلهام و الإشراق.
و قد أولى (الکسیس کارل) و هو من علماء الغرب جانب الشهود قیمة خاصة حیث کتب یقول: من المتیقن أن الاکتشافات العلمیة لیست حصیلة فکر الإنسان وحده، و أن النوابغ لا یستفیدون من قوة الملاحظة و إدراک القضایا و حسب، و إنما یستفیدون من خصائص أخرى کالإشراق. حیث یتوصلون بالإشراق إلى أمور لم یدرکها الآخرون و یرون العلاقات الخفیة التی تربط الأشیاء إلى بعضها حیث یظن أن لا علاقة بینها، و یحلون الکثیر من عقد المجهولات بالفراسة، فقد تیسر لنا المعرفة بعالم الخارج بطرق أخرى غیر طریق العقل و الوحی و ....
و علم (المیتافیزیقیا) یتکفل الیوم بدراسة مثل هذه الجوانب من وجود الروح الإنسانیة، خصوصاً تلک الجوانب التی لم تکن تعرف إلى الآن بشکل جید. أی أنهم یعللون لنا الرؤیا الخارقة لدى البعض و یکشفون عن أسبابها[15]. و إنها لحقیقة تتجلى بعض الأحیان من خلال إلقاء بعض الحقائق فی ضمیر الإنسان مما یخفى على الحس، و انها تنیر فضاء ذهن الإنسان إلى حدٍ یعتقد معه بیقینیتها، و أن ما أُلهم صحیح مائة بالمائة أی أنه یرى أن واقعیة الشیء قد کشفت بالکامل حتى کأنه یراها و أن الواقع یکون مشهوداً عنده حتى لا یبقى لدیه أی تردد فیه. و هنا لا بد من التوجه إلى أن ما یکشف للإنسان لا یتعدى جانباً من الواقع و لعله لا یدرک ماهیة الشیء الملهم بسبب ضیق الفضاء الروحی أو الاشتباه فیما یدرک و یظن. بعبارة أخرى فإن ماهیة الشیء الملهم یکون لها أثر معکوس فی أرواحنا و أذهاننا.
و لذا لا بد من التوجه إلى أن إمکان الخطأ محتمل فی دائرة العلم الشهودی و ما یتحصل عن طریق الإلهام، و لذلک فإن الحکم على المکاشفات و تصنیف الکاذب و الصادق منها أمرٌ یحتاج إلى معیار و دراسة خاصة[16].
و أما قوة التعرض لمسألة الشهود و طرحها بحماس فذلک ما لم یحدث فی مذاهبنا الأخلاقیة کما طرح فی المذاهب الغربیة مثل مذهب (توماس رید)[17] أو (أکویناس و أغوسطین)[18] و أننا ندرس الشهود فی علم العرفان، و نعده من مسائل هذا العلم.
و على أی حال فبالإمکان الکشف عن المفاهیم الأخلاقیة عن طریق تهذیب النفس و ریاضتها و الشهود کما ورد ذلک فی العرفان الإسلامی، فالإنسان مثلاً یستطیع أن یتعرف على مدى فقره و حاجته و جمیع الموجودات إلى الله بعین قلبه.
یقول تعالى بخصوص عباده الذین ینهجون الإخلاص و الاعتماد على الدین فی عالم المعرفة: «وَ الَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ»[19].
و یقول الرسول الأکرم (ص): «من عمل بما علم کفی ما لم یعلم»[20].
و من أجل الإیضاح بشکلٍ أکثر فی هذه المسألة نشیر بإیجاز مجمل إلى العرفان الإسلامی.
یقسم العرفان الإسلامی إلى قسمین: عملی و نظری، فالعرفان النظری یختص بتفسیر الوجود، وجود الله و العالم و الإنسان فیبحث فی المسائل العلمیة و النظریة فی هذا المیدان، و العرفان من هذه الزاویة أشبه بالفلسفة.
و القسم الآخر هو العرفان العملی و هو کالأخلاق یحاول تغییر الإنسان و السیر به قدماً، فالعرفان العملی یعتنی بمسیر الإنسان و عروجه باتجاه القمة الإنسانیة الشامخة المتمثلة بالتوحید، فیدله على نقطة البدایة و کیفیة المسیر و منازل الطریق و ما یلقاه و یتعرض له بین هذه المراحل، و من الطبیعی أن یکون طی هذه المنازل تحت إشراف إنسان کامل تمکن من تجاوز هذه المراحل سابقاً، و إلا فخطر الضلال و الانحراف فی مرصد قریب. ولقد اشار العارفون الی هذا المعنی فی اشعارهم و آثارهم الادبیة.[21].
النتیجة النهائیة: إن الأخلاق تحتاج إلى المصادر و المنابع المتقدمة فی مراحلها الثلاث:
1- دائرة تفسیرها.
2- استنباط الأحکام و قواعدها و أسسها.
3- إدراک واقعیة الأعمال و المساعدة على ضمان تطبیقها.
و مع إمکان اختلاف هذا الاحتیاج لکل منبع یعنی فی کل من الدوائر الثلاث تحتاج إلى منشأ و منبع واحد، و أما احتیاجها إلى منشأ آخر یقتصر على دائرة أو دائرتین خاصتین.
[1] الأستاذ هادوی الطهرانی، باورها و پرسش ها، الاعتقادات و التساؤلات، قم، بیت الحکمة، ص95.
[2] زابینه اشمیتکه، الآراء الکلامیة للعلامة الحلی، ترجمة أحمد نمایی، ص116، المؤسسة الرضویة للأبحاث الإسلامیة، 1378.
[3] عباس المرتضوی، علم و عقل از دیدگاه مکتب تفکیک ،" العلم و العقل فی نظر مدرسة التفکیک"، ص189، المرکز الإسلامی العالمی، 1381.
[4] المصدر نفسه.
[5] محمد تقی مصباح الیزدی، معارف القرآن، ج4 و 5، راه و راهنماشناسى" الارشاد الی الطریق".، ص10، مؤسسة الإمام الخمینی للدراسات و الأبحاث، 1382.
[6] المصدر نفسه، ص11.
[7] المصدر نفسه، ص15.
[8] النساء، الآیة 165.
[9] محمد تقی مصباح الیزدی، فلسفة الأخلاق، ص80-82، مؤسسة الإمام الخمینی للدراسات والأبحاث، 1381.
[10] مارتن مکدرموت، الآراء الکلامیة للشیخ المفید، ص71، مؤسسة الدراسات الإسلامیة، کلیة مک کیل، شعبة جامعة طهران، 1363.
[11] البقرة، 151.
[12] هادوی الطهرانی، الاعتقادات و التساؤلات، قم، بیت الحکمة، الطبعة الثالثة، 1382، ص48.
[13] «ونزلنا علیک الکتاب تبیاناً لکل شیء» النحل، 89.
[14] الانسان ذلک المجهول "الإنسان موجود غریب"، ص 135 إلى 137، نقلاً عن جعفر سبحانی الفکرة الثالثة، ص50.
[15] نفسه.
[16] آیة الله جوادی الآملی، الشریعة فی مرآة المعرفة، قم، مرکز الرجاء الثقافی للنشر، الطبعة الثانیة، 1372، ص137.
[17] الشهریاری، حمید، فلسفة الأخلاق فی الفکر الغربی من وجهة نظر السدر مک اینتاید، طهران، الطبعة الأولى، 1385 ص215.
[18] المصدر نفسه، ص155 و 156.
[19] العنکبوت، 69.
[20] الحر العاملی، وسائل الشیعة، ج27، ص164؛ العلامة المجلسی، بحار الأنوار ج2، ص30، وج65، ص312.
[21] للاطلاع الأکثر، انظر: المطهری، مرتضى، المعرفة فی العلوم الإسلامیة، طهران، الطبعة الثالثة عشر، 73 ج2، ص85 إلى ص87.