Please Wait
8269
یعتقد الجبریون بان الانسان مجبر فی أفعاله و لیس مختاراً فی ما یصدر منه من فعل. فقد ذهب المتکلمون من الأشاعرة الى کون الانسان مجبراً فی أفعاله فاقداً للارادة فی فعله. و قد نسبوا جمیع الافعال الى الله تعالى، فالانسان کالحجر الملقى من شاهق لا اختیار له فی حرکته.
و انما ذهبوا الى تبنی هذه النظریة لانهم لم یستطیعوا الإجابة عن بعض الشبهات المثارة فی هذا المجال. و بعبارة أخرى إنهم تبنوا ذلک لانهم یعتقدون بانهم من خلال تبنی هذه النظریة سوف یحافظون على التوحید بالخالقیة و أن لا خالق سوى الله تعالى.
و نحن نعتقد بان هذه النظریة باطلة لان الاعتقاد بها یستلزم:
1. اختلال العدل الالهی؛ 2. انها تتنافى مع هدف الانبیاء؛ 3. انها تتنافى مع صریح آیات القرآن الکریم؛ 4. یترتب علیها مجموعة من الآثار و العواقب الاجتماعیة الخطیرة.
اما العلماء الشیعة فیعتقدون بنظریة "الأمر بین الأمرین" و التی أشار الیها الأئمة (ع)، وهی تعنی بان فعل الانسان فی الوقت الذی هو منسوب الى الله تعالى هو أیضاً منسوب الى العبد، الا أن نسبته الى العبد من جهة کونه هو المباشر للفعل "نسبة مباشریة" و نسبته الى الله تعالى بالتسبیب بانه تعالى هو الذی منح الانسان القدرة و القابلیات الوجودیة التی تمکنه من القیام بالفعل فالنسبة نسبة سببیة.
عندما یطرح مصطلح "الجبر" فی البحث العقائدی یراد به أن الانسان فاقد للارادة و الاختیار فی أفعاله و تحرکاته، فلیس قادراً على اختیار الحسن و لا هو قادر على رد القبیح، بل کل ما یصدر عنه فهو بإرادة الله و إختیاره.
فالجبریون یعتقدون بان الانسان مجبر على فعله و تصرفاته وانه مسلوب الارادة. فی مقابل ذلک نرى هناک اتجاه آخر یرى أن الانسان مختار فی فعله و أن مطلق العنانو الارادة فی اختیاره و تصرفاته.
و قد أثیرت تلک الأبحاث فی الاوساط الاسلامیة منذ النصف الاول من القرن الثانی و على اقصى التقادیر فی النصف الثانی من ذلک القرن.
و مما لاریب فیه أن العامل الأساسی فی خوض العلماء المسلمین فی مثل هذه الابحاث هو ورود مثل هذه الابحاث فی آیات الذکر الحکیم و کلمات النبی الاکرم (ص). فمسالة المصیر و کذلک مسالة الحریة و الاختیار و مسائل أخرى ذات صلة لما طرحت فی القرآن الکریم و صرحت الآیات و الروایات بقضیة مصیر الانسان و اختیاره و ارادته، من هنا خاض العلماء فی مثل هذه الابحاث لمعرفة المراد من الآیات و الروایات و بیان مفادها.
و قد ذهب علماء المذهب الاشعری الى تنبی نظریة الجبر، و من أهم الادلة التی استندوا الیها فی هذا دعم هذه النظریة، هی:
1. علم اللّه الأزلی
قالوا: «إنّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلّا جاز انقلاب العلم جهلًا، وما علم اللّه وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد، وإلا جاز ذلک الانقلاب وهو محال فی حقّه سبحانه، وذلک یبطل اختیار العبد، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، ویبطل أیضاً التکلیف لابتنائه على القدرة والإختیار، فما لزم القائلین بمسألة خلق الاعمال فقد لزم غیرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلی المتعلّق بالأشیاء»[1].
والجواب عنه: أنّ علمه الأزلی لم یتعلّق بصدور کلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلّق علمه بصدوره عنه حسب الخصوصیات الموجودة فیه وعلى ضوء ذلک، تعلّق علمه الأزلی بصدور الحرارة من النّار على وجه الجبر والاضطرار، کما تعلّق علمه الأزلی بصدور الرعشة من المرتعش کذلک، ولکن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الإختیاری منه بقید الإختیار والحرّیّة، ومثل هذا العلم یؤکّد الاختیار. قال العلّامة الطباطبائی:
إنّ العلم الأزلی متعلّق بکلّ شیء على ما هو علیه، فهو متعلّق بالأفعال الإختیاریة بما هی إختیاریة، فیستحیل أن تنقلب غیر إختیاریة .... [2]
2. إرادة اللّه الأزلیة
قالوا: «ما أراد اللّه وجوده من أفعال العبد وقع قطعاً، وما أراد اللّه عدمه منها لم یقع قطعاً، فلا قدرة له على شیء منهما». [3]
والجواب عنه: أنّ هذا الإستدلال نفس الإستدلال السّابق لکن بتبدیل العلم بالإرادة، فیظهر الجواب عنه ممّا ذکرناه فی الجواب عن سابقه. قال العلامة الطباطبائی:
تعلّقت الإرادة الإلهیة بالفعل الصادر من زید مثلًا لا مطلقاً، بل من حیث إنّه فعل اختیاری صادر من فاعل کذا، فی زمان کذا ومکان کذا، فإذن تأثیر الإرادة الإلهیة فی الفعل یوجب کون الفعل اختیاریاً وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة ... فخطأ المجبرة فی عدم تمییزهم کیفیّة تعلّق الإرادة الإلهیة بالفعل .... [4]
3. لزوم الفعل مع المرجِّح الخارج عن الاختیار
قالوا: «إنّ العبد لو کان موجداً لفعله بقدرته فلابدّ من أن یتمکن من فعله وترکه، وإلّا لم یکن قادراً علیه، إذ القادر من یتمکّن من کلا الطرفین. وعلى هذا یتوقّف ترجیح فعله على ترکه على مرجّح، وإلّا لزم وقوع أحد الجائزین بلا مرجِّح وسبب وهو محال، وذلک المرجِّح إن کان من العبد وباختیاره لزم التسلسل الباطل، لأنّا ننقل الکلام إلى صدور ذلک المرجِّح عن العبد فیتوقّف صدوره عنه إلى مرجِّح ثان وهکذا ....
وإن کان من غیره وخارجاً عن اختیاره، فبما أنّه یجب وقوع الفعل عند تحقّق المرجِّح، والمفروض أنّ ذلک المرجِّح أیضاً خارج عن اختیاره، فیصبح الفعل الصادر عن العبد، ضروریّ الوقوع غیر إختیاری له». [5]
والجواب عنه: أنّ صدور الفعل الإختیاری من الإنسان یتوقّف على مقدّمات ومبادئ من تصوّر الشیء والتصدیق بفائدته والإشتیاق إلى تحصیله وغیر ذلک من المقدمات، ولکن هذه المقدمات لا تکفی فی تحقّق الفعل وصدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانیة الّتی یندفع بها الإنسان نحو الفعل، ومعها یکون الفعل واجب التحقّق وترکه ممتنعاً.والمرجّح لیس شیئاً وراء داعی الفاعل وإرادته ولیس مستنداً إلّاإلى نفس الإنسان وذاته، فإنّها المبدأ لظهوره فی الضمیر، إنّما الکلام فی کونه فعلًا اختیاریاً للنفس أو لا؟ فمن جعل الملاک فی اختیاریة الأفعال کونها مسبوقة بالإرادة وقع فی المضیق فی جانب الإرادة، لأنّ کونها مسبوقةً بإرادة أُخرى یستلزم التسلسل فی الإرادات غیر المتناهیة، وهو محال.
وأمّا على القول المختار، من أنّ الملاک فی اختیاریّة الأفعال کونها فعلًا للفاعل الّذی یکون الإختیار عین هویّته وینشأ من صمیم ذاته ولیس أمراً زائداً على هویّته عارضاً علیها، فلا إشکال مطلقاً، وفاعلیة الإنسان بالنسبة إلى أفعاله الإختیاریة کذلک، فاللّه سبحانه خلق النفس الإنسانیة مختارةً، وعلى هذا یستحیل أن یسلب عنها وصف الإختیار ویکون فاعلًا مضطرّاً کالفواعل الطبیعیّة.
4. التکلیف بمعرفة اللّه تکلیف بالمحال
قالوا: «التکلیف واقع بمعرفة اللّه تعالى إجماعاً، فإن کان التکلیف فی حال حصول المعرفة فهو تکلیف بتحصیل الحاصل، وهو محال، وإن کان حال عدمها فغیر العارف بالمکلّف وصفاته المحتاج إلیه فی صحّة التکلیف منه، غافل عن التکلیف وتکلیف الغافل تکلیف بالمحال». [6]
والجواب عنه: أنّا نختار الشقّ الأوّل من الإستدلال ولکن لا بمعنى المعرفة التفصیلیة حتى یکون تحصیلًا للحاصل، بل المعرفة الإجمالیة الباعثة على تحصیل التفصیلیة منها.
توضیح ذلک: أنّ التکلیف بمعرفة اللّه تعالى تکلیف عقلی، یکفی فیه التوجّه الإجمالی إلى أنّ هناک منعماً یجب معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته شکراً لنعمائه، أو دفعاً للضرر المحتمل.
5. لا یوجد الشیء إلّابالوجوب السابق علیه
قد ثبت فی الفلسفة الأُولى أنّ الموجود الممکن ما لم یجب وجوده من جانب علّته لم یتعیّن وجوده ولم یوجد، وذلک: لأنّ الممکن فی ذاته لا یقتضی الوجود ولا العدم، فلا مناص لخروجه من ذلک إلى مستوى الوجود من عامل خارجی یقتضی وجوده، ثمّ ما یقتضی وجوده إمّا أن یقتضی وجوبه أیضاً أو لا؟ فعلى الأوّل وجب وجوده، وعلى الثانی، بما أنّ بقاءه على العدم لا یکون ممتنعاً بعدُ، فیسأل: لماذا اتّصف بالوجود دون العدم؟ وهذا السؤال لا ینقطع إلّا بصیرورة وجود الممکن واجباً وبقائه على العدم محالًا، وهذا معنى قولهم: «إنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد».
هذا برهان القاعدة، ورتّب علیها القول بالجبر، لأنّ فعل العبد ممکن فلا یصدر منه إلّا بعد إتّصافه بالوجوب، والوجوب ینافی الاختیار.
والجواب عنه: أنّ القاعدة لا تعطی أزید من أنّ المعلول إنّما یتحقّق بالإیجاب المتقدّم على وجوده، ولکن هل الإیجاب المذکور جاء من جانب الفاعل والعلّة أو من جانب غیره؟ فإن کان الفاعل مختاراً کان وجود الفعل ووجوبه المتقدّم علیه صادراً عنه بالإختیار، وإن کان الفاعل مضطرّاً کالفواعل الکونیة کانا صادرین عنه بالإضطرار.
والحاصل: أنّ الوجوب المذکور فی القاعدة وإن کان وصفاً متقدّماً على الفعل، ولکنّه متأخّر عن الفاعل، فالمستفاد منه لیس إلّا کون الفعل موجباً (بالفتح) وأمّا الفاعل فهو قد یکون أیضاً کذلک وقد یکون موجِباً (بالکسر)، فإن أثبتنا کون الإنسان مختاراً فلا تنافیه القاعدة المذکورة قید شعرة.[7]
هذه اطلالة اجمالیة على أدلة القائلین بالجبر مع مناقشتها؛ و من المناسب هنا أن نشیر الى بعض الآثار السیئة التی تترتب على القول بالجبر، منها:
1. إن القول بالجبر لا ینسجم مع العدل الالهی؛ فقد أشار سبحانه و تعالى الى عدله فی أکثر من آیة کقوله تعالى " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزیزُ الْحَکیم".[8]
و قوله عز من قائل: " وَ نَضَعُ الْمَوازینَ الْقِسْطَ لِیَوْمِ الْقِیامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَیْئاً وَ إِنْ کانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَیْنا بِها وَ کَفى بِنا حاسِبین".[9]
2. إن القول بالجبر لا ینسجم مع بعثة الانبیاء؛ فقد اشار القرآن الکریم الى أن من بین اهداف بعثة الانبیاء التعلیم و التربیة و تزکیة البشر.[10] و من البدیهی أن هذا الهدف لا یتحقق مع کون الانسان مجبراً فی أفعاله و حینئذ یکون بعث الانبیاء لغوا لا طائل من ورائه لعدم مؤثریة الارشاد و التبشیر و الانذار فی فعل الانسان.[11]
علماً، أن إنکار حریة الانسان بالمطلق لم یبق حینئذ فرق بینه و بین سائر الموجودات.
أضف الى ذلک أنه یترتب على هذه النظریة – کما یشیر الى ذلک الشهید المطهری- مجموعة من الآثار الاجتماعیة الخطیرة فقد تکون هذه النظریة مبررا للظلمة و الطواغیت للتمادی فی غیهم و ظلمهم و فی المقابل تجعل المظلومین و المحرومین مکتوفی الایدی لا یحرکون ساکناً.
و قد حدثنا التاریخ أن هذه النظریة کان مدعومة من قبل الامویین لیتشبثوا بها من أجل تبریر ما أقترفته ایدیهم من جرائم و موبقات؛ و فی المقابل تراهم یحاربون القائلین بالاختیار و یرون فی نظریة الاختیار خطراً على سلطانهم فقاموا بقتل البعض و إیداع البعض الآخر خلف قضبان السجون.[12]
فالمذهب الحق فی هذا القضیة یتمثل فیما ذهبت الیه الشیعة من الفعل الصادر من الانسان ینسب الى الانسان من جهة کونه هو الفاعل المباشر له، و فی الوقت نفسه ینسب الى الله تعالى باعتباره المسبب و المانح لکل للقوة و القابلیات الموجدة للفعل فهو فعله تعالى بالتسبیب، ففعالیة الانسان فاعلیة مباشریة و فاعلیة الله تعالى فاعلیة سببیه. و یطلق على هذه النظریة عنوان "أمر بین أمرین).
و هذه النظریة مدعومة بکثیر من الآیات القرآنیة و الاحادیث الشریفة الصادرة عن المعصومین (ع).
لمزید الاطلاع انظر:
1- انسان و مساله الجبر و اختیار، رقم 223.
2- ما المراد من لاجبر و لا تفویض بل أمر بین الامرین؟ رقم 58.
[1] شرح المواقف: 8/ 155 بتلخیص.
[2] الأسفار: 6/ 318، تعلیقة العلّامة الطباطبائی قدس سره.
[3] شرح المواقف: 8/ 156.
[4] المیزان: 1/ 99- 100.
[5] شرح المواقف: 8/ 149- 150، بتلخیص وتصرّف.
[6] شرح المواقف: 8/ 157.
[7] انظر: الشیخ جعفر السبحانی، محاضرات فی الالهیات، ص 219-222؛ مصباح الیزدی، محمد
قی، آموزش عقاید (تعلیم العقائد ثلاث مجلدات)، ص 155.
[8] آل عمران،18.
[9] الانبیاء،47.
[10] انظر: الجمعة، 2.
[11] لان الانسان وفقا لنظریة الجبر فاقد للارادة.
[12] المطهری، مرتضی، مجموعه الآثار، ج 1، ص 375-376.