Please Wait
7546
من الحقائق التي لايمكن التغافل عنها انعدام القدرة الفعلية عند أكثر الناس على الدراسة و التحقيق و بذل الجهد العلمي ـ أو بدونه ـ للوصول إلى درجة من العلمية يمكنهم بها الوصول إلى الأحكام الإلهية و التكاليف الشرعية عبر المصادر الأصلية (الكتاب و السنة)، فليس بإمكان جميع الناس أن يدرسوا تكاليفهم على نحو الإستدلال فلا وجود لهذا الإستعداد و لا لهذا الذوق لدى الجميع و لا المصلحة تقتضي ذلك، و كأنما نقول يجب على كافة الناس أن يكونوا خبّازين أو أطباء و هكذا. فهذا الأمر يؤدي إلى إختلال النظام الإجتماعي، ففي هذه الحالة، لا مناص من التقليد و هذه القاعدة جارية على كل المهن و التخصصات. و في الحقيقة، هذا نوع من العقود و المعاملات غير المدونة موجودة بين البشر بشكل طبيعي و تحمل في الواقع عنوان الرجوع للمتخصص.
فعلى ضوء المسائل الجديدة التي تستجد كل يوم في كل الجوانب و التي تناولها علماؤنا السابقون بالبحث و التحقيق، يظهر من الضروري الرجوع للفقيه المتخصص في الأمور الدينية، فلا تبرير عقلائي ـ على هذا الأساس ـ لرجوعك للمرحوم الملا صدرا.
و بقليل من التأمل يظهر أن رجوع الجاهل إلى العالم الذي هو عين التقليد، أمر مستحسن و لا وجود لأي تعارض بين التقليد و الآية المباركة "لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين"، إذ الآية الشريفة وردت في أصل مسألة قبول الإسلام فلا أحد يمكنه إكراه الآخرين على قبول الإسلام، و هذا ما تقرّه التعليمات الدينية، لكن لو تبنى شخص الإسلام (أو أي دين آخر) عن إطلاع و دراسة، فمن الطبيعي عليه الإلتزام بكل مبانيه و أصوله و فروعه.
أما ما يخص الخطبة 18 في نهج البلاغة، فقد سلّط الأمام (ع) الضوء في هذا الجزء من خطابه على بطلان مسألة الإجتهاد بالرأي بدليل محكم قوي، و بتقسيم دقيق مبتنٍ على خمس أسس أبرز عدم صحة هذه الفكرة بأوضح بيان. و لا صلة لهذا الأمر بالإجتهاد القائم على أساس المباني و الأصول الصحيحة.
ينطلق هذا السؤال ـ في الحقيقة ـ عن إبهام يتحتم رفعه أولاً ثم بمناقشته و الجواب عنه نصل للنتيجة المطلوبة. و هذه الأسئلة هي كما يلي:
1ـ من الذي يجب عليه التقليد؟
2ـ في أيّ المسائل الدينية يجب التقليد؟
3ـ أي الأشخاص يمكن تقليدهم؟
4ـ ما هو التقليد المذموم؟
5ـ ألا تنافي جملة "لا إكراه في الدين..." الإجبار في التقليد؟
6ـ فإذا كان التقليد صحيحاً فلماذا أنتقده الإمام علي (ع) في الخطبة 18 من نهج البلاغة؟
نجيب عن هذه الأسئلة بالنسق التالي:
أولاً: ينقسم المكلفون إلى قسمين:
الف ـ الأفراد الذين إستطاعوا بالدراسة و التحقيق و بذل الجهد العلمي إلى الوصول إلى درجة من العلمية يمكنهم بها الوصول إلى الأحكام الإلهية و تكاليفهم العملية عبر المنابع الأصلية (الكتاب و السنة).
ب ـ الأفراد الذين ليس باستطاعهم الوصول إلى هذه الدرجة من العلمية ـ سواء بالدراسة و التحقيق و بذل الجهد العلمي - أم بدون ذلك ـ يمكنهم بها الحصول على الأحكام الإلهية و تكاليفهم العملية عبر المنابع الأصلية (الكتاب و السنة).
و بديهي و انطلاقا من حكم العقل و السيرة العقلائية أن أفراد القسم الأول لا يمكنهم الرجوع إلى الآخرين في المسائل التي يعلمون حكمها.
أما القسم الثاني: فبما أن أكثر الناس من هذا القسم، فليس بإمكان الجميع أن يدرسوا تكاليفهم على نحو الإستدلال، فلا وجود لهذا الإستعداد و لا لهذا الذوق لدى الجميع و لا المصلحة تقتضي ذلك، لأن ذلك يعني في الحقيقة الزام الناس بتخصص واحد كأن نقول يلزم على كافة الناس أن يكونوا خباّزين أو أطباء أو غير ذلك... و هذا مما يؤدي إلى إختلال النظام الإجتماعي.
إذن بناءً على ما مضى نصل إلى نتيجة مهمة و هي أنه لا مناص من التقليد في هذه الحالة، و هذه القاعدة جارية على كل المهن و التخصصات. و في الحقيقة، هذا نوع من العقود و المعاملات غير المصرح بها موجودة بين البشر بشكل طبيعي و تحمل في الواقع عنوان الرجوع للمتخصص. و للحصول على مزيد من المعلومات عن ضرورة تقليد الجاهل للعالم راجعوا الأجوبة الموجودة في نفس هذا الموقع:
الموضوع "حكمة تقليد المراجع و عدم بيان الأدلة" الرقم 2991 و الموضوع "أدلة ضرورة تقليد المراجع" الرقم 1078.
و أما قول السائل: أنا من أتباع المذهب الجعفري و أعمل بأحكام الدين طبقاً للمبنى و التعاليم الصدرائية. فهو في الحقيقة مسلم للتقليد و غير رافض له بالجملة و هو نفس تقليد المراجع الذي حاول الفرار منه.
ثانياً: يقسّم علماؤنا الأعلام التعاليم الدينية إلى قسمين:
الف ـ المسائل القلبية المتعلقة بالإيمان و العقائد و تسمّى أصول الدين.
ب ـ المسائل الجوارحية المتعلقة بالعمل و تسمّى فروع الدين.
و قد إتفق علماء الإسلام على أن الإنسان يجب عليه الوصول الى اليقين في أصول الدين بالدراسة و التحقيق و لا ثمرة للتقليد فيها.
و لكسب مزيد من المعلومات عن موضوع عدم جواز التقليد في أصول الدين راجعوا الأجوبة ذات الصلة بالموضوع و الموجودة في نفس هذا الموقع: موضوع "التقليد في العقائد" الرقم 4809 و موضوع "التقليد في أصول الدين" الرقم 1460.
أما في فروع الدين فيجب التقليد كسائر الموارد و المسائل الإجتماعية و الفردية.
ندخل الآن في جواب السؤال الثالث و هل يجوز تقليد الأموات أم لا؟
فعلى ضوء المسائل الجديدة التي تستجد كل يوم في كل الجوانب و التي تناولها علماؤنا السابقون بالبحث و التحقيق، يظهر من الضروري الرجوع للفقيه المتخصص في الأمور الدينية، فلا تبرير عقلائي ـ على هذا الأساس ـ لرجوعك للملا صدرا و تقليدك له في الأحكام الدينية.[1]
لكسب مزيد من المعلومات عن لزوم تقليد المجتهد الحي راجعوا الأجوبة الموجودة في هذا الموقع: موضوع "فوائد تقليد المجتهد الحي" رقم 539.
رابعاً: كما أن التقليد في الفروع أيضاً بعضه غير وارد و غير مقبول، و لا شك في ذلك، فلا بد من أن نرى أي تقليد هذا المذموم و المرفوض.
للحصول على جواب واضح لا بد من القاء الضوء على أنواع التقليد، ثمّ نميز غثه من سمينه.
هناك أربعة أنواع للتقليد و هي:
الف ـ تقليد العالم للعالم.
ب ـ تقليد الجاهل للجاهل.
ج ـ تقليد العالم للجاهل.
د ـ تقليد الجاهل للعالم.
و بقليل من التأمل يتضح أن ما عدا النوع الرابع مرفوض و غير مقبول، فالأول ترجيح بلا مرجح و لا يقرّه العقلاء، إلا إذا كانت هناك مرجحات يرجع له بسببها.
و الثاني: فهذا الأمر لغو و لا فائدة فيه.
الثالث: فهذا إضافة إلى أنه لغو و لا فائدة له، فهو قبيح في رأي العقل و العقلاء، فعلى هذا و بناءً على برهان السبر و التقسيم لا يبقى عندنا إلّا المورد الرابع إذ لا يشمله الرفض و الذم.
أما السؤال الخامس.
نكتفي هنا بجوابين حلّي و نقضي.
الجواب الحلي: لا وجود لأي تعارض بين الأمرين، فآية "لَا إِكْرَاهَ في الدِّين" وردت في أصل مسألة قبول الإسلام فلا أحد يمكنه إكراه الآخرين على قبول الإسلام و بما أن الإعتقاد بدين ما أمر قلبي، فلا يمكن إكراه شخص في الأمور القلبية، لكن لو تبنى شخص الإسلام (أو أي دين آخر) عن إطلاع و دراسة، فمن الطبيعي انه يجب عليه الإلتزام بكل مبانيه و أصوله و فروعه.
و لتوضيح الفكرة نشير الى المثال التالي.
تصور بأننا غير ملزمين و لا مكرهين أصلاً بالنسبة للإنتماء للجيش و القوة العسكرية، فمن الطبيعي لا نكون عندها ملزمين بتطبيق برامجهم و قوانينهم (كالبرامج الصباحية و الإستعراض و...)، غير أن هذا في حال عدم إنتمائنا للجيش، و لكن عندما ننتمي إليه بكامل إختيارنا، لا بد من الإلتزام بجميع قوانينه و برامجه، فليس من المعقول هنا أن نقول: نحن أحرار و غير ملزمين بتنفيذ برامجكم و قوانينكم، فقبول الدخول في هذا السلك هو بمثابة التوقيع على الإلتزام بكل قوانينه.
الجواب النقضي:
هل يصح لمن قبل الإسلام بإختياره أن يقول: أنا لا أصوم إذ " لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين ". لا أصلي إذ " لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين ". لا أحج عند الإستطاعة، إذ " لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين". لا أزكى عند وصول أموالي حد النصاب، إذ " لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّين". و ......؟!
السؤال السادس:
إنتقاد الإمام علي (ع) لإختلاف آراء الفقهاء في الفتاوى.
اتضح مما مرّ أن التقليد أمر عقلائي و عقلي. و هذا ما نفهمه من تأكيد الروايات. نشير هنا إلى روايتين في هذا المجال تؤيد بحثنا في أمر تبنّي التقليد:
الف ـ عن سليم بن أبي حيّة قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فلما أردت أن أفارقه ودّعته و قلت: أحب أن تزودني! فقال: إئت أبان بن تغلب فإنه قد سمع منّي حديثاً كثيراً فما روى لك فَارْوِهِ عَنِّ.
ب ـ و في حديث عن الإمام الباقر (ع) أنه قال لأبان بن تغلب: "إجلس في مسجد المدينة و افت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك".[2]
سؤالنا الآن هو، من هم الذين أمر الأمام أبان بأن يفتیهم؟، و إذ أفتاهم فما هو تكليفهم أمام هذه الفتاوى؟ هل يتحتم عليهم الإنصياع؟ أو لم يكن هذا تقليداً؟ أو لم يكن هذا الأمر رجوع الجاهل للعالم الذي يسمى تقليداً؟
فإذا إتفقنا على ضرورة الافتاء، فمن الطبيعي يكون فهم الفقيه للمصادر القرآنية و الروائية هو الملاك و عندها يصبح الإختلاف أمراً بديهياً.
راجعوا في هذا المجال موضوع: مباني صدور الفتوى، السؤال 524
أما ما يخص الخطبة 18 في نهج البلاغة. فقد إتضح مفهوم كلام الإمام علي (ع) بما تقدم من إيضاح، فقد سلّط الإمام (ع) الضوء في هذا الجزء من كلامه على بطلان مسألة الإجتهاد بالرأي بدليل محكم قوّي. و بعبارة أبسط رفض تقنين الفقهاء دون إتباع أصول الإجتهاد، و بتقسيم دقيق يبتنيٍ على خمسة أسس أبرز الإمام علي (ع) عدم صحة هذه الفكرة بأوضح بيان و قطع جميع طرق الفرار عليهم، و أبرز عدم صحة هذه الفكر بأوضح بيان.[3]
و بعبارة أخرى، إن الإمام (ع) في هذه الخطبة أبطل و ببيان بليغ و تحليل دقيق و ظريف مسألة التصويب و التمسك بالقياس و الإستحسان و الإجتهاد بالرأي، و لم يدع أمام إتباع هذا الرأي مجالاً للفرار، فإن الله عزّ و جلّ قد أنزل ديناً كاملاً و قرآناً، جامعاً لكل حاجات البشر و نبياً لم يأل جهداً في سبيل تبليغ هذه الرسالة و لم يرض الله سبحانه الإختلاف لهذه الأمّة أبداً بل دعا الجميع إلى الإتحاد و التمسك بالوحدة في كل مناسبة.[4]
[1] إضافة إلى ذلك هل لديه كتاب أو رسالة عملية في الأحكام العملية للمكلفين أم لا؟
[2] النوري، مستدرك الرسائل، ج 17، ص 315، الحديث 21452 ـ 14، مؤسسة البيت، قم 1408 ه ق.
[3] المكارم الشيرازي، ناصر، رسالة الإمام شرح جديد و جامع لنهج البلاغة، ج 1، ص 624، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الأولى، 1375.
[4] نفس المصدر، ج 1، ص 628.