Please Wait
8526
وقع العدل – بجمیع معانیه – مورداً للبحث و التدقیق فی علم الکلام و لکن المعنى الذی حظی باهتمام أکبر و کان موضوعاً للنقض و الإبرام هو "العدل" بمعنى رعایة ما یستحقه المکلفون فی مقام الثواب و العقاب و نتائج البحث فی هذا المعنى هی التی أدت إلى تقسیم المسلمین إلى عدلیة (الإمامیة و المعتزلة) من جهة، و أشاعرة من جهة أخرى.
اعتقد الأشاعرة بأن کل ما یصدر عن الله فهو عین العدل، فإذا شاء الله أن یلقی جمیع الأنبیاء و المؤمنین فی النار و جمیع الکفار و المنافقین فی الجنة (و هذا ممکن عندهم) فإن هذا العمل الصادر عن الله هو عین العدل.
أما العدلیة فقد تمسکوا بالحسن و القبح العقلی الذاتی إضافة إلى القول بأن الذات الإلهیة هی خیر محض و إن کان الله سبحانه و علمه و قدرته أمور مطلقة، و على هذا الأساس بنوا اعتقادهم باستحالة صدور القبائح عن الله سبحانه و من جملتها الظلم، و إن مراعاة ما یحسِّنه العقل ضروری و لازم لدى الله سبحانه، و العدل من جملة ما یحسِّنه العقل.
العدل فی اللغة یعنی التوسط و الابتعاد عن طرفی الإفراط و التفریط، و إذا تعدى بـ(عن) کأن یقال "عدل عن الطریق" فإنه یعنی العدول و الابتعاد، و کذلک جاءت هذه الصیغة بمعنى المساوی (المعادل) و کذلک جاءت بمعنى البدیل و کذلک الفدیة.[1]
أما فی علم الکلام و العقائد و ... فقد جاء "العدل" بعدة معانی وقعت جمیعها مورداً للبحث و الدراسة، و من أهمها:
1. العدل؛ التساوی و التعادل و عدم التفرقة؛ و ذلک عند ما تتساوى الحقوق.
2. العدل؛ بمعنى الابتعاد عن الکبائر و عدم التظاهر بالفسق، و هذا المعنى استعمل بکثرة فی علم الفقه، و کذلک استفید منه فی علم الکلام کما فی بحث الإمامة و ولایة الفقیه.
3. العدل بالمفهوم الأخلاقی؛ بمعنى رعایة حقوق الآخرین و هذا المعنى یقابل الظلم و هو التعدی على حقوق الآخرین.
4. العدل بالمفهوم الاجتماعی؛ و معناه توزیع الإمکانات الاجتماعیة بشکل متساوٍ و یشمل عدة میادین کتوزیع الثروات و تکافؤ الفرص على الصعید العلمی و الثقافی و التربوی و غیرها.
5. العدل بمعنى وضع کل شیء فی موضعه المناسب، أی أن کل مفردة فی الکون تشکل وحدة متجانسة فی مجمل النظام الکونی بحیث یتکون لدینا من المجموع نظم هو الأحسن فی السیر بعالم الوجود إلى ما رسم له من غایة و أهداف و یعد هذا المعنى مفهوماً فلسفیاً لأنه یلقی نظرة على مجمل نظام الکون.
6. العدل؛ بمعنى مراعاة الحقوق و إعطاء کل ذی حق حقه فی عالم التشریع و القضاء و الحساب من قبیل إعطاء الثواب و ترتیب العقاب، و هذا بمعنى یقابل الظلم الذی؛ یعنی الحیف و عدم إعطاء الثواب کما ینبغی، أو العقاب على الظلم بأکثر مما ینبغی.
أما فی القرآن الکریم[2] فکذلک جاءت صیغة "العدل" فی عدة معان لغویة و اصطلاحیة مختلفة، و لکن أکثر ما وردت به هو معنى نفی الظلم عن الساحة الإلهیة فی میدان الثواب و العقاب فی الدنیا و الآخرة.
فی کثیر من الموارد القرآنیة أشیر إلى العدل و القسط کهدف أساسی لبعثة الأنبیاء و کذلک دعی الناس إلى احترام العدل و مراعاة حقوق بعضهم البعض و عدم الاعتداء على حقوق الآخرین، و جاءت بعض الآیات لتأمر بالقضاء العادل و المنصف فی حل قضایا الناس. إضافة إلى ما ورد فی أن خلق السماوات و الأرض و الناس إنما جاء على أساس العدل و التوازن.
کما قلنا فإن العدل فی میدان الثواب و العقاب هو الذی نال الحظ الأوفر من البحث و الدراسة فیما بین سائر المعانی المتقدمة.
الاشاعرة (أتباع أبی الحسن الأشعری) اعتقدوا أن لا شیء واجب و ضروریة بالنسبة إلى الله سبحانه و تعالى. و إن أی اعتقاد بوجوب أی شیء على الله إنما هو تحدید له سبحانه و من قبیل تعیین التکالیف لله، فی الوقت الذی لا حقّ لأی مخلوق أن یعین لله تکالیف أو یضع الحدود و القیود على قدرته المطلقة و إرادته و أفعاله.
على هذا الأساس لیس لأحد أن یقول أن العدالة لازمة على الله، و أن القبیح ممتنع علیه کالظلم مثلاً، بل إن کل ما یفعله الله هو عین العدل، حتى لو أنه وضع جمیع المؤمنین فی النار و جمیع الکفار فی الجنة! و إن هذا لیس بمحال علیه.
منشأ الخطأ لدى هذه الجماعة مترتب على ما قال به المعتزلة فی تفسیرهم لضرورة العدالة و لزومها على الله سبحانه.
المعتزلة (أتباع واصل بن عطاء) قد تمسکوا بالحسن و القبح العقلیین الذاتیین، و أن مراعاة العدل فی الدنیا و الآخرة واجبٌ على الله، حیث یفهم من تحریرهم للمسألة نوع تکلیف لله سبحانه و تحدید لقدرته و إرادته!
ما بین هذا و ذاک جاء رأی الإمامیة (أتباع الأئمة الإثنی عشر (ع)) حیث أسسوا اعتقادهم على النحو التالی: نظراً إلى القول بالحسن و القبح الذاتیین العقلیین و بالتوجه إلى کمال الذات الإلهیة و ما یقتضیه هذا الکمال، فإن صدور القبائح کالکذب و خلف الوعد و الظلم غیرها مستحیل على الله، و حین یستحیل أن یصدره منه القبیح فمعنى ذلک أن جمیع أعماله سبحانه تطابق الحسن و العدل، بل هی عین العدل و الحسن. و على هذا الأساس و ما جاء فی القرآن الکریم من وعد و وعید و أن خلف الوعد محال على الله فمن غیر الممکن أن یلقی الله الأنبیاء و المؤمنین و الصالحین فی نار جهنم و أن ینعم الکفار و المنافقین فی جنة الخلد لأن ذلک خلاف وعده و وعیده.
بعبارة أوضح: إن صدور العدل و الصدق و الوفاء بالعهد من الله ضروری و واجب و أن القبائح یستحیل صدورها عن الله، هذا هو القول الصحیح و لیس القول أن العدل واجب على الله و أن الظلم حرام على الله.
فالوجوب فی قول الإمامیة بمعنى الضرورة الفسلفیة و هو ما یقابل المحال و الممتنع و هذا مغایر للوجوب العقلی أو الشرعی الذی یفهم من قول المعتزلة و هو بمثابة إصدار الأحکام على الله و الزامه بها.
من هنا یکون دور العقل هو الکشف عن الواقع و نفس الأمر، و لم یکن دوره کمصدِّر للأحکام على الله سبحانه، فالعقل یفهم حتمیة عدالة الله، و إنه لا یوقع الظلم على أحد فی الدنیا و الآخرة أبداً، و لکنه لیس من شأنه إصدار الأحکام و تعیین التکالیف على الله و لیس ذلک بمقدور العقل.
حصیلة هذا النزاع أن سمی الإمامیة و المعتزلة (بالعدلیة) حیث أضافوا العدل کأصل من أصول الدین، فی حین بقی الأشاعرة متمسکین بالأصول الثلاثة التوحید و النبوة و المعاد.
على الرغم من وصف الإمامیة و المعتزلة بالعدلیة إلا أن الفروق کثیرة بین الفکر الإمامی و فکر المعتزلة، حیث تخلصت نظریة الإمامیة من إفراط المعتزلة و تفریط الأشاعرة.
من الجدیر بالذکر إن للعدل بالمعنى المتقدم لوازم تم بحثها فی علم الفقه أو علم الکلام، أو فی کلیهما، و هذه اللوازم هی:
أ. العدل فی التکوین: إن کل مخلوق خلق على أساس العدل و التوازن، و قد رُتِّبت أجزاؤه على نحو یمکّن المخلوق من الوصول إلى کماله الذی یستحقه و الذی یلیق به.
من جانب آخر فقد أعطی کل مخلوق فی هذا العالم دوراً خاصاً به، و على هذا الأساس فإن عالم الوجود بکل مکوناته یسیر بشکل منسجم و متناغم باتجاه هدف مرسوم و محدد سلفاً.
ب. العدل فی عالم التشریع: العدل التشریعی یلازمه أمران:
1. قبح العقاب بلا بیان:[3] و معناه أن الله لا یعاقب تارک التکلیف إذا کان جاهلاً بالتکالیف بشرط أن یکون قاصراً لا مقصراً. من هنا فإن الفرد الذی لم یلتق من یبلغه تعالیم الدین و لیس له القدرة على الهجرة و التحقیق بنفسه فإنه یعد مستضعفاً لا یتعرض للعقاب على أعماله المنبثقة عن جهله، هذا من جانب و من جانب آخر فإن عدم وجود الحکم الشرعی الخاص فی بعض الموارد فإن الحکم هنا هو جواز العمل فی هذه الموارد.
.- قبح التکلیف بما لا یطاق:[4] لم یکلف الله الإنسان فوق ما یستطیع، و قد رفع الحرج و العسر عن ذوی الأعذار[5]، فلا انتظار من أحد فوق ما یتمکن کما یتم تقییم أعمال المکلف على حسب استطاعته و قدرته، فالعمل الحسن یلقى الثواب و السیء یلقى العقاب.
ج. العدل یوم الحساب: إن الله یحکم یوم القیامة بین الناس على أساس العدل طبقاً للموازین المتقدمة.
د. العدل فی إجراء الأحکام: إن الله یحکم بالعدل فی ما یخص إجراء أحکامه فیثیب المحسنین و الصالحین و یعاقب المذنبین و أهل السوء.
من الجدیر بالذکر أن الأئمة المعصومین(ع) فی أدعیتهم کثیراً ما یستجیرون بالله سبحانه من أن یعاملهم بعدله، و فی القرآن الکریم جاءت صفة العدل بمعنى تنزیه الساحة الإلهیة من الظلم. و السر فی ذلک هو أن عبادة الله و إطاعته و شکر نعمائه کما یستحق سبحانه لیست بمقدور العبد و إن اجتهد فی ذلک، لأن التوفیق للطاعة و أداء الشکر هو فی حد ذاته فضل و عطاء آخر یتطلب شکراً جدیداً و طاعة أخرى.
من جهة أخرى فإن الطاعة و الشکر فی مقابل ما أفاض الله على العباد فی هذه الدنیا، و على هذا الأساس یبقى الثواب الأخروی تفضلاً و لطفاً من الله سبحانه و ما هو إلا عنایة مضاعفة منه، و من هنا فإن رحمة الله مقدمة على غضبه، و قد أوجب الله سبحانه على نفسه الرحمة[6] فسنة الله فی إعطاء الثواب تتجلى مرتین مقابل الطاعة و مقابل الشکر، و من هنا کان ثواب المؤمنین على أعمالهم الصالحة أضعافاً مضاعفة و لم یقتصر العطاء على الاستحقاق فقط، و کذلک الحال بالنسبة لما یستحقه المجرمون و المسیئون من العذاب فإن الله یخفف عنهم الکثیر و ذلک بما یصیبهم من سکرات الموت واهوال القبر و الوقوف فی یوم الحشر، و ما ینالهم من شفاعة، و بذلک لا ینالهم من العذاب بقدر ما یستحقون کل ذلک بفضل الله و رحمته.
و من هنا فإن الله سبحانه هو أهل الجود و المغفرة و الفضل و الإحسان فی مقام الثواب و العقاب، و لیس أهل العدل، و أن الإحسان و التفضل و الجود مقدم على العدل فی عالم الأخلاق و قیمه.
فی المحصلة فإن الله سبحانه فوق العدل، فهو الحاکم المطلق و الخیر المحض، و الرحمة الواسعة.
من الجدیر بالذکر أن الاعتقاد بالعدل الإلهی و بکل أبعاده له ثمار علمیة و عملیة و عقائدیة کثیرة، فقد استفید من هذا الاعتقاد فی الاستدلال على إثبات النبوة و الإمامة و المعاد، و کذلک لعب دوراً مهماً و عظیماً فی استنباط الأحکام الشرعیة.
أملنا بالعدل الإلهی فی یوم القیامة، و یهون علینا الصبر مقابل ظلم الآخرین – فی حالة العجز لمن وضع الظلم و الجور – و یهب المؤمنین الاندفاع و النشاط فی إقامة العدل فی المجتمع و القیام بالعمل الصالح و التسابق فی الخیرات و رعایة حقوق بعضهم البعض.
مصادر البحث:
سبحانی، جعفر. الإلهیات: ج 1-3. المرکز العالمی للعلوم الإسلامیة – الطبعة الثانیة، 1409 هـ.ق ص 273-290 و ص 301-310.
سبحانی، جعفر. بحوث فی الملل و النحل: ج 2، مرکز مدیریة الحوزة، الطبعة الثانیة، قم، 1366، ص 329 – 334.
الشهرستانی، عبد الکریم. الملل و النحل، ج 1-2، الأنجلو مصر، الطبعة الثانیة، 1375 هـ.ق مصر، ص 47 و 48.
الجلبی، أبو الصلاح. تقریب المعارف، مکتب المنشورات الإسلامیة، 1363 قم، ص 88-94 و 71.
علم الهدى، السید المرتضى، الذخیرة، مکتب المنشورات الإسلامیة، 1411 هـ.ق، قم، ص 211 – 255.
المطهری، مرتضى.عدل الهی" العدل الإلهی" الطبعة العاشرة، لسنة 57، ص 59 – 66.
الطوسی، الخواجة نصیر الدین، کشف المراد، شکوری، الطبعة الرابعة، سنة 73، قم،
ص 356 – 367.
مصباح الیزدی، محمد تقی.آموزش عقاید "تعلیم العقائد" ج 1 – 2 منظمة التبلیغ الإسلامی الطبعة الثانیة عشرة، سنة 76، قم ص 190-199 (الدرس 20).
مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق در قرآن "الأخلاق فی القرآن" ج 1، مؤسسة الإمام الخمینی (قدس سره) للتعلیم و التحقیق، قم ص 72.
سعیدی مهر، محمد، آموزش کلام اسلامى "تعلیم الکلام الإسلامی" ج 1، الطبعة الثانیة، سنة 81، قم، ص 313 – 325.