Please Wait
9982
إن الله سبحانه هو وجود غیر متناه، و حائز على جمیع الکمالات بشکل مطلق، و الخلق بمعنى الإیجاد هو فیض، و إن الله سبحانه فیاض، و کمال فیاضیته یقتضی أن یخلق کل ما من شأنه استحقاق الخلق و أن الخلق لائق به. إذن فالله تعالى خالق لأنه فیاض، أی أن الهدف من الخلق و الإجابة عن التساؤل عنه هو کامن فی کون الله سبحانه فیاضاً، و بما أن صفاته الذاتیة غیر خارجة عن ذاته، فمن الممکن أن یقال: أن الهدف من الخلق هو الذات الإلهیة.
و قد خلق الله الإنسان کموجود ینطوی فی داخله على نوعین من المیول أحدهما باتجاه الحسن و الخیر و الآخر باتجاه الشر و السوء، و هو فی نفس الوقت یتلقى دعوتین مختلفتین، دعوة (الأنبیاء) إلى الخیر والصلاح و دعوة (الشیاطین) إلى الشر و الفساد، کما أن لدیه القابلیة على نیل أعلى مراتب کمال المخلوق و فیه القابلیة على الانحطاط إلى أدنى المراتب فی سلم التکامل. فإذا ما سلک الإنسان طریق الحق على الرغم من وجود میوله الحیوانیة و ما یحیط به من وساوس الشیطان و حبائله، فإنه یکون بذلک أفضل من الملائکة، و ذلک لأن الملائکة غیر مبتلین بالمیول الحیوانیة و لا بالوسوسة الشیطانیة، و أما إذا اختار طریق الباطل فسینحط إلى ما هو أدنى من مرتبة الحیوانات و ذلک لأن الحیوانات لا تتمتع بالقدرات المعنویة التی یتمتع بها الإنسان. فلو فرضنا أن الله سبحانه خلق الإنسان مقروناً بجمیع الکمالات التی یمکنه الحصول علیها، فلا یعد ذلک کمالاً اختیاریاً بالنسبة إلى الإنسان، و أن الله سبحانه قد خلق موجودات قبل الإنسان على الکیفیة المذکورة، و أنها تتمتع بکل کمالاتها الممکنة، فالهدف من خلق الإنسان إذن یتحقق عندما تکون له القابلیة على التکامل و أنه ینال هذه المرتبة بواسطة أفعاله الاختیاریة.
و أما الکفار و مرتکبی المعاصی و الذنوب الذین یتخلفون عن تحصیل هذا الکمال، فإنهم على الرغم من عدم حصولهم على الهدف الأصلی من خلق الإنسان – و الذی یمثل إرادة الله التشریعیة – فإنهم لا یکونون بذلک مخالفین لهدف الخلق التکوینی و ذلک لأن الله سبحانه أراد (بإرادته التکوینیة) أن یجعل منهم قادرین على الاختیار بین طریق الحق و الباطل، فلو جعل الله طریق الضلال و الانحراف غیر ممکن بالنسبة للإنسان، فلا یبقى معنى للإیمان و الطاعة و الإرادة و الاختیار.
من أجل أن یتضح السؤال بشکلٍ أکثر، لابد من ملاحظة بعض المطالب:
المطلب الأوّل: هدف الله سبحانه من الخلق:
1. فبمقتضى کون الله سبحانه واجب الوجود، و أن وجوده غیر متعلق بأی وجودٍ آخر، فلا یمکن تصور أی محدودیة بحقه و لا أی نقص، و أنه حائز على جمیع الکمالات.
2. و من جملة کمالاته أنه فیاض و جواد، یقول سبحانه فی القرآن: «وَ مَا کَانَ عَطَاءُ رَبِّکَ مَحْظُورًا».[1] فلا حدود للعطاء الإلهی من جهة الله سبحانه، و علیه فکل مکان لا نجد فیه عطاءً فإن العلة فی ذلک کامنةٌ فی محدودیة المستقبِل و ضیق وعائه لا من جهة المعطی و المفیض، و أن کل ما یمکن أن یُعطى فإنه یُعطى.
3. إن کل خیر و کمالٍ ناشئ من الوجود، و کل شرٍ و نقص منشؤه عدمیته لان الشرور امور عدمیة، فالعلم مثلاً خیر و کمال، و الجهل شر و نقص، و کذلک القدرة مقابل العجز و عدم الاستطاعة هی کمال و خیر. فمن المعلوم إذن أن الوجود خیر و ما یقابله من شر و نقص هو من العدم.
4. بالتوجه إلى المقدمة الثالثة نعلم أن کون الله فیاضاً و جواداً یتحقق من خلال الخلق و الإیجاد. إذن فلازم کون الله سبحانه فیاضاً هو کونه خالقاً.
و بعبارة أخرى، إذا کان شیء لائقاً للوجود و مستحقاً له و لکن الله لم یوجده و لم یخلقه فإن عدم الخلق هذا یعد بخلاً و منعاً للخیر بلحاظ کون الوجود خیراً، و لکن البخل محال على الله سبحانه وتعالى. و من هذه المقدمات یمکن أن نحصل على النتیجة التالیة: إذا ما سؤل عن العلل الباعثة لله سبحانه على الخلق؟. نجیب بأن کون الله فیاضاً هو الباعث على الخلق.
5. إن صفات الله هی عین ذاته و لیس شیئاً زائداً علیها، بینما تکون صفات الإنسان و سائر الأجسام الأخرى زائدة على ذاتها، فمثلاً للتفاح ذات و أن الحمرة و الحلاوة من صفات تلک الذات، و هذه الحمرة و الحلاوة خارجة عن ذات التفاح. فمن الممکن للتفاح أن یتصف بصفات أخرى کالخضرة و الحموضة مع الاحتفاظ بالذات على حالها.
و البحث فی اتحاد ذات الله سبحانه و صفاته بحث کلامی عمیق، یمکن الرجوع فیه إلى علم الکلام و فی مبحث التوحید الصفاتی لمن أراد المزید. و ما هو مهم لنا فی هذا الموضوع هو کون الله فیاضاً، الذی هو علة غائیة للخلق و الإیجاد، هی صفة ذاتیة لله و هی عین ذاته و غیر زائدة علیها، إذن فإذا قیل لماذا وقع الخلق من الله؟، لنا أن نقول: لأنه الله، إذن فالعلة الغائیة فی الواقع هی ذات الله سبحانه. و هذا هو معنى قول فلاسفتنا: (إن العلة الغائیة و العلة الفاعلیة متحدتان فی أفعال الله)،[2] و یحتمل إمکانیة استفادة هذا المعنى من بعض الآیات القرآنیة،[3] من أمثال قوله تعالى: «وَ إِلَیْهِ یُرْجَعُ الأَمْرُ کُلُّهُ».[4].
المطلب الثانی: بخصوص الهدف الإلهی من خلق الإنسان؛ کلما تقدم من الکلام هو فی هدف الفاعل بالنسبة إلى أصل الخلق بشکلٍ عام، و لکن هدف الفاعل فی خلق موجودٍ من نوع الإنسان فإنه یحتاج إلى خصوصیة إضافیة. و هذه الخصوصیة بالنسبة إلى الإنسان تتمثل فی الکمال الخاص الذی یرید الله خلقه من خلال خلق الإنسان.
توضیح ذلک: من لوازم کون الله فیاضاً للکمال هو أن یخلق کل کمال ممکن و قبل أن یخلق الله الإنسان خلق موجودات باسم الملائکة بکیفیة جعلها تتمتع بکل کمالاتها الممکنة منذ بدایة خلقها؛ یعنی أن جمیع کمالاتها الممکنة هی بالفعل منذ بدایة خلقها، و لذلک فلیس من الممکن لهذه المخلوقات أن تنال أی لونٍ جدید من ألوان الکمال، و إن مرتبة وجودها لا تقبل التکامل. قال تعالى على لسان الملائکة: «وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ».[5]
و قال علی (ع): «ثم فتق ما بین السماوات العلا، فملأهن أطواراً من ملائکته، منهم سجود لا یرکعون، و رکوع لا ینتصبون، و صافون لا یتزایلون، و مسبحون لا یسأمون»،[6] فهؤلاء یعبدون الله سبحانه، و هذا هو الکمال الذی أعطاهم الله إیاه، و لیس بإمکانهم أن یتخلفوا عن إطاعة أوامر الله أو مخالفتها. قال الله تعالى: «لاَ یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ».[7] فلا سبق بالقول بالنسبة إلى الملائکة ولا تخلف بالعمل.
و کذلک قال تعالى: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَکُمْ وَ أَهْلِیکُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ عَلَیْهَا مَلائِکَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا یَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ یَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ».[8]
و بسبب کون الله فیاضاً، أراد أن یخلق کمالاً آخراً إضافة إلى الکمال الموجود لدى الملائکة، و هذا الکمال هو اختیار الإنسان؛ یعنی أنه یخلق موجوداً ینال جمیع هذه الکمالات باختیاره و حریته، و لهذا خلق الإنسان الذی لا یملک الکمالات اللائقة به من بدایة خلقه، و لکنه على کیفیة یستطیع معها من الوصول إلى تلک الکمالات و بلوغ تلک المراتب. و من الواضح الجلی فإن الکمال الذی یبلغه الإنسان و یحصل علیه من خلال اختیاره بکامل حریته هو أفضل من الکمال المعطى إلى الملائکة منذ بدایة خلقها دفعةً واحدةً، قال أمیر المؤمنین علی (ع): «إن الله رکب فی الملائکة عقلاً بلا شهوة، و رکب فی البهائم شهوة بلا عقل، و رکب فی بنی آدم کلتیهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خیر من الملائکة، و من غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم».[9] و قد أخذ مولوی هذا المعنى فنظمه شعراً قال فیه:
إن الله خلق العالم على ثلاثة أنواع
مجموعةً هی عقل و علم وجود
و هذه هی الملائکة التی لا تعرف إلا السجود
لا وجود للهوى و المیول فی أصل خلقتها
و إنما هی نور مطلق یحیا بالعشق الإلهی
و مجموعة أخرى لا نصیب لها من العلم
کما هی الحیوانات المشغولة بعلفها
لا ترى شیئاً وراء الإسطبل و العلف
فهی غافلة عن شقائها و شرفها
وثالثها البشر من أبناء آدم
فنصفه ملک و نصفه حیوان
فجزؤه الحیوانی یجره إلى الانحطاط
بینما یمیل جزؤه الآخر إلى التعالی و السمو
و حتى یغلب أحد هذین الاتجاهین
فسوف تبقى الحرب قائمة بینهما
إذن فالهدف و العلة الغائیة من خلق الإنسان هو کون الله سبحانه فیاضاً، و من لوازم کون الله فیاضاً هو أن یخلق هذا النوع الممکن من أنواع الکمال، هذا الکمال الذی یعد أرقى أنواع الکمال.
المطلب الثالث: لماذا لم یخلق الله الإنسان کاملاً؟ بالتوجه إلى ما تقدم من البحث یمکن القول أن الهدف من خلق الإنسان یمکن أن یتحقق حینما یکون الإنسان ممتلکاً قابلیة الوصول إلى الکمال و أنه یحصل على هذا الکمال بفعله الاختیاری، و لو فرضنا أنه حصل على هذا الکمال منذ بدایة خلقه، فلا یعد بعد ذلک -قطعاً- من کماله الاختیاری، فلا یتحقق الهدف الأصلی و الأساس من خلقه.
لا بد من التوجه إلى أن ترقی الإنسان درجة واحدة فی سلم التکامل یعد من التکامل الاختیاری بالنسبة للإنسان، و هو تحقیق و تحصیل للهدف الأصلی من خلق الإنسان، حتى و إن کان بمقدار هذا الارتقاء الجزئی.
المطلب الرابع: الإنسان الکافر و العاصی؛ لو لم یرتقِ الإنسان درجة واحدة فی سلم التکامل، و أمضى جمیع أوقات حیاته بالکفر و العصیان و اقتراف الذنوب فمثل هذا الإنسان لا یخرج عن دائرة هدف الخلق هو الآخر. لأنه أوصل قابلیاته إلى الفعلیة، لأن الإنسان له قابلیة الانحطاط إلى أسفل الدرجات أیضاً، و قد خلقه الله سبحانه بکیفیة یتمکن من خلالها أن یختار طریق الخیر و الکمال أو طریق الشقاء و الانحطاط، إذن فحتى الإنسان الکافر و المقترف للذنوب لا یتحرک خلافاً لإرادة الله التکوینیة.
نعم إن الله سبحانه یرید صعود الإنسان و تکامله و یحمده، و لا یرید له الانحطاط و لا یرتضیه. و بعبارةٍ أخرى: فإن لله فی خلق الإنسان نوعین من الإرادة: إرادة تکوینیة و إرادة تشریعیة. إرادته التکوینیة تتمثل فی إعطاء القدرة و الإمکانیة لکل إنسان فی إیصال قابلیاته و استعداداته إلى مرتبة الفعلیة و ذلک على مستوى الحسن و القبیح. و أما بالنسبة إلى إرادته التشریعیة فإنها تنحصر فی إرادته بأن یسیر الإنسان فی طریق الکمال و یوصل قابلیاتها الخیرة إلى الفعلیة و التحقق.
و بناءً على ما تقدم یمکن القول أن الإنسان المؤمن حقق الهدف الإلهی التشریعی بالإضافة إلى مسیره فی طریق الهدف التکوینی.
و لکن الإنسان الکافر و العاصی فإنه و إن لم یحقق الهدف التشریعی و لکنه غیر خارج عن طریق الهدف التکوینی.
تنبیه: ما زال فی البحث کلام بعد حیث هناک الکثیر من الروایات فی هذا المجال و لکننا نتوقف عند هذا الحد نزولاً على رغبة السائل و میله و نتجنب التفصیل بأکثر مما قدمنا.
[1] الإسراء، 20.
[2] انظر: الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، ج8 ،ص 44؛ مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن"معارف القرآن"، ج 1، ص 154.
[3] البقرة، 210؛ آل عمران، 109؛ الأنفال، 44؛ الحج، 76؛ فاطر، 4؛ الحدید، 5.
[4] هود، 123.
[5] الصافات، 164و 166.
[6] نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
[7] الأنبیاء، 27.
[8] التحریم، 6.
[9] وسائل الشیعة، ج 11، ص 164.