Please Wait
7705
ان الآیات القرآنیة الشریفة، و کذلک الروایات لا توجد فیها دلالات صریحة على تجرد الملائکة. و لکن من الممکن استنباط و إثبات تجرد الملائکة من خلال أوصافهم و أفعالهم، و ذلک لأن ما ورد من أوصاف الملائکة فی الآیات القرآنیة و الروایات و کلام العلماء ینسجم مع کون الملائکة موجودات مجردة، و من المستحیل لبعض هذه الأوصاف أن تکون من خصوصیات الجسم و الجسمانیة، و التی یتمثل بعضها بما یلی:
1- ورد فی بحث النبوة مسألة مؤداها: هل إن منزلة الأنبیاء أفضل من منزلة الملائکة، أم أن الأفضلیة لمنزلة الملائکة؟
و قد استدل الذین یعتقدون بأفضلیة الأنبیاء على الملائکة و تمسکوا بالقول التالی: إنه بالإضافة إلى أن الأنبیاء یتمتعون بالقوة الروحیة و القوة العاقلة، فإنهم مزودون بقوى الشهوة و الغضب، و قد تغلبوا على هاتین القوتین بمساعدة العقل و الإیمان، و أما بالنسبة للملائکة فلا توجد لدیهم قوة أخرى مقابل قوة العقل، و لذلک فلا وجود للشاغل و المزاحم لهم فی وقت عبادتهم، و من الواضح أن الموجود الذی لا توجد فیه قوة الشهوة و قوة الغضب لابد و أن یکون موجوداً مجرداً. لأن الموجود الحی الذی یملک الشعور و الاختیار إذا کان مادیاً، فلابد أن یکون له قوة الغضب و الشهوة.
2- إن خلق الملائکة غیر مصحوب بالتحول و التغیر، و إنها موجودات ثابتة، فی حین أن التغیر و التحول من أبرز خصائص المادة.
3- حالة العبادة مستمرة و دائمة لدى الملائکة و کذلک امتثال الأوامر الإلهیة، و لم یعرض علیهم التعب و الضجر. و من المعلوم إن کل وجود مادی ینتابه الإعیاء و التعب لدى أدائه أی لون من ألوان الأعمال و النشاطات.
4- منزلة الملائکة و مقامهم معلوم و مشخص، و لا یتصور بحقهم التکامل و الارتقاء، و معنى ذلک أن الملائکة نالوا جمیع الکمالات الممکنة لهم منذ البدایة و دفعة واحدة. فی حین لا یکون الموجود المادی کذلک، کما هو الإنسان، فإنه لا یکون فی حالة الکمال و لا ینتهی إلیها إلاّ بالتدرج، ابتداءً من حالة القوة إلى حالة الفعل من خلال مجاهدة النفس و ترویضها، بینما یکون الکمال بالنسبة إلى الملائکة بالفعل منذ الوهلة الأولى، و هذه الخاصیة من خصائص الموجودات المجردة.
5- الملک موجود لا یقبل الإشارة الحسیة، أی أنه من غیر الممکن الإشارة إلى الملک، لا بالذات و لا بالعرض، و بما أن الإشارة الحسیة بالذات فی مورد الجسد، و الإشارة بالعرض فی مورد الجسمانیات مثل: القوة الهاضمة و الباصرة ممکنة. و حیث أن الإشارة الحسیة من خواص الجسم،، فکل موجود غیر قابل للإشارة الحسیة لا یکون موجوداً مادیاً.
6- عندما یکون الجسم مادیاً، فإنه یشغل حیزاً من الفضاء، فی حین أن الملائکة لا یشغلون مثل هذا الحیز، و من الممکن أن یجتمع عدد لا محدود من الملائکة فی مکان محدود.
7- إن الله یبعث الأنبیاء إلى بنی البشر و لم یبعثهم إلى الملائکة ذلک لأن الملائکة لا یمکنهم أن یرتقوا إلى کمالات جدیدة و إنما حصلوا على کل الکمالات الممکنة بشکل دفعی و منذ بدایة خلقهم فلا وجود للحرکة من القوة إلى الفعل فی عالم الملائکة، و على القاعدة الفلسفیة لابد و أن یکون الملائکة موجودات مجردة، لأن عدم التغیر و التبدل یتنافى مع کون الموجود مادیاً.
8- ما یستفاد من الروایات أن الملائکة مکلفون کما هو الحال بالنسبة للإنسان، و لکن الإنسان وحده الذی تلقى التهدید و الوعید بالعذاب و العقاب فی حالة مخالفته التکلیف و تمرده على الأمر و النهی، و یستفاد من ذلک أن الإنسان یتمتع بقوة الشهوة و الغضب و الاستعداد لمخالفة الأوامر الإلهیة، خلافاً للملائکة، و علیه فالإنسان و الملک وجودان مختلفان، و حیث أن الإنسان موجود مادی بالفعل، فالملائکة موجودات مجردة ذاتاً و فعلاً.
یذهب بعض العلماء المسلمین إلى أن الملائکة أجسام لطیفة و نورانیة قادرة على التمثل و التشکل فی صور و أشکال مختلفة، و أن الأنبیاء و أوصیاءهم قادرون على رؤیة الملائکة، کما أنهم یرون التجرد مخالفاً لظاهر الآیات و الروایات و الأخبار المتواترة، و من أولئک المحقق الدوانی فی شرح العقائد و شارح المقاصد، حیث یقولون ان الملائکة موجودات کاملة من حیث العلم و القدرة، و إنهم على حال من العبادة لیلاً و نهاراً، من دون أن یعرض علیهم نوع من أنواع التعب و النصب، کما أنهم ینفذون الأوامر الإلهیة دون عصیان أو تردد.
و أما طبیعة الملائکة لدى الفلاسفة فتتلخص بالقول: إن الملائکة عقول مجردة و نفوس فلکیة، لیس لها أی ارتباط بعالم الأجسام.[1]
یقول الفخر الرازی فی تفسیره: وقع الاختلاف فی ماهیة الملائکة و حقیقتهم، و الأقوال فی المسألة على النحو التالی:
إن الملائکة موجودات قائمة بنفسها، و قد قسموها إلى فئتین:
إما أن تکون متحیزة (جسمانیة) أو أنها غیر متحیزة. و فی تحیز الملائکة عدة أقوال:
1- إن الملائکة أجسام لطیفة قادرة على التمثل و التشکل بأشکال مختلفة و صور متعددة، و إن محل سکناها و قرارها فی السماوات و هذا رأی الأکثریة من المسلمین.
2- رأی عبدة الأصنام حیث یقولون: إن الملائکة هی الکواکب و هی على کیفیتین: کواکب السعد و الخیر و هی ملائکة الرحمة، و کواکب النحس و الشرور و هی ملائکة العذاب.
3- قول أکثر المجوس و الثنویة: إن العالم یتشکل من جزءین أساسیین النور و الظلمة، و إن جوهر النور هو الملائکة و الموجودات ذوات النفس الکریمة التی توصل النفع إلى الموجودات الأخرى، و جوهر الظلمة هم الشیاطین.
و أما بالنسبة إلى القائلین بعدم تحیز الملائکة، و إنها موجودات لا جسمانیة فهم على قولین أیضاً:
1- قول مجموعة من النصارى: و هو أن الملائکة نفوس ناطقة و أنها مفارقة للمادة ذاتاً.
2- قول الفلاسفة: و هو أن الملائکة جواهر قائمة بالنفس، و مجردة عن المادة، و هی مخالفة للنفوس الإنسانیة الناطقة من جهة المادة و هی أکمل من النفوس الإنسانیة من جهة القدرة و العلم، و إن نسبة الملائکة إلى الناس کنسبة الشمس إلى النور الصادر عنها (کمثل منبع النور إلى النور) و هم على قسمین و فئتین:
1- الملائکة الذین تکون نسبتهم إلى الأجرام و الأفلاک کنسبة النفوس الإنسانیة إلى أبدانها، أی أنهم یدبرون الأفلاک.
2- المجموعة الثانیة لها شأن و منزلة أعلى من الأولى، و هم مستغرقون فی العبادة و التسبیح، و یطلق علیهم اسم الملائکة المقربون.[2]
و قد یرى بعض الفلاسفة وجود قسم ثالث من أقسام الملائکة، و هم الذین یدبرون العالم السفلی.[3] و من مجموع الأقوال و الآراء یستفاد أن الملائکة على قسمین:
1- الملائکة المقربون و هم فی حالة عبادة دائمة من دون أن یعتریهم تعب و لا ینتابهم فتور، و لا سبیل للمعصیة إلى ساحة هذه الفئة، و یصطلحون علیهم بلفظ (الکروبیین) و هم فی حال تجرد عقلی.
2- الملائکة الذین اتخذوا على عاتقهم تدبیر أمور العالم، کحمل الوحی، و إعطاء النعم، و إجراء العذاب و أمثالها. و لهم ذات مجردة بالتجرد المثالی، و بإمکانهم التشکل بأشکال مختلفة، و هؤلاء لهم علم و قدرة و کمال أیضاً، و ینفذون کل أمر یأتیهم من جانب معبودهم من دون تقصیر أو تردد، و هذه الفئة من الملائکة قابلة للرؤیا و المشاهدة بالنسبة للأنبیاء و أوصیائهم، و کذلک التحدث معهم، کما جاء فی قصة إبراهیم (ع) و الغذاء الذی صنعه لهم، ظناً منه أنهم من الإنس، و کذلک الکلام مع لوط النبی (ع)، و ما نزل بقومه من العذاب، و کذلک ما کان من تمثل جبرئیل (ع) بصورة دحیة الکلبی.
و لأجل إیضاح الاختلاف بین التجرد المثالی و التجرد العقلی نرى من اللازم الإشارة إلى مسألة تقسیم الفلاسفة العالم إلى ثلاثة أقسام و طبقات:
1- العالم المادی، الذی یحتوی على المادة و آثار المادة و هو عالم التزاحم و التضاد.
2- عالم التجرد المثالی، الذی یحتوی على آثار المادة شکلاً و لوناً، و لکن لا وجود للمادة نفسها فی هذا العالم، کما هی الأشکال و الأفراد التی نراها فی النوم.
3- عالم التجرد العقلی، و لیس هذا العالم خالیاً من المادة و الحجم و حسب و إنما لا وجود لآثار المادة فی هذا العالم.[4]
أما بالنسبة لتجرد الملائکة فقد ذکرت عدة أدلة تذکر بعضاً منها على الوجه التالی:
ألف) طرحت المسألة التالیة فی بحث النبوة: هل أن مقام الأنبیاء و منزلتهم أفضل من الملائکة، أما أن الملائکة أفضل من الأنبیاء؟
و قد تمسک القائلون بأفضلیة الأنبیاء على الملائکة بالدلیل التالی:
إضافة إلى وجود الجانب الروحی و القوة الفعلیة لدى الأنبیاء، فإنهم یمتلکون قوة الشهوة و الغضب، و إنهم یتغلبون على هاتین القوتین بواسطة الإیمان و العقل، و أما بالنسبة للملائکة فلا توجد لدیهم قوة مضادة للعقل، فلا وجود لشیء یزاحمهم فی عبادتهم، و من الواضح أن الموجود الذی لا ینطوی على قوة الشهوة و الغضب لابد و أن یکون موجوداً مجرداً، لأن الموجود الحی الذی یمتلک شعوراً و اختیاراً، و إنه موجود مادی، لابد و أن یمتلک قوة الشهوة و الغضب.[5]
ب) إن خلق الملائکة لا یصاحبه تغیر و تحول، و إنها موجودات ثابتة، کما وردت الإشارة لذلک فی بعض الروایات، و إن مثل هذا الموجود لابد و أن یکون مجرداً و غیر مادی، و ذلک لأن التغیر و التبدل أحد خصائص المادة و ممیزاتها.
ج) یستفاد من الآیات و الروایات أن الملائکة فی حالة عبادة دائمة و انصیاع لتنفیذ الأوامر الإلهیة دون أن یعتورهم التعب أو ینتابهم النصب، و معلوم أن الموجودات المادیة یطالها التعب و السأم عندما تؤدی أعمالها.
د) للملائکة مقام و مرتبة مشخصة و معلومة، و لا وجود للتکامل بالنسبة إلیها، بمعنى أنها تلقت جمیع الکمالات اللائقة بها من مبدأ الفیض دفعة واحدة، فی حین یختلف الأمر بالنسبة للموجودات المادیة، کالإنسان مثلاً، فإنه فی حالة تکامل مستمر لا نهایة له.[6] و إنه ینطوی على کمالات بالقوة تظهر إلى الفعل من خلال المجاهدات النفسیة و الریاضات الروحیة، بینما تکون کمالات الملائکة بالفعل منذ البدایة، و هذا الأمر من خصوصیات التجرد.
هـ) لا یقبل الملائکة الإشارة الحسیة، أی أنه لا یمکن أن نشیر إلى الملائکة حسیاً، سواء کانت الإشارة الحسیة بالذات کما هو الحال بالنسبة إلى الأجسام، أو کانت بالعرض کما هی حالة الجسمانیات: کالقوة الباصرة أو الهاضمة. و علیه فالإشارة الحسیة من خواص الأجسام، إذن فکل موجود لا یقبل الإشارة الحسیة هو موجود غیر مادی.
و) عندما یکون الوجود جسمانیاً فإنه یشغل حیزاً فی الفضاء، و لا یمکن لوجود آخر أن یشغل نفس الحیز فی وقت واحد، فی حین أن الملائکة لا تشغل حیزاً مکانیاً.و من الممکن أن یجتمع عدد لا محدود من الملائکة فی مکان محدود.
ز) بعث الله الأنبیاء و الرسل بهدف استکمال الناس و هدایتهم، و لم یبعث رسلاً إلى الملائکة، و بذلک یعلم أن الملائکة لا یمکن أن یحصلوا على کمالات جدیدة خلافاً لبنی البشر، و إنما تلقوا جمیع الکمالات اللائقة بهم منذ بدایة خلقهم، فلا وجود إلى الحرکة من القوة إلى الفعل فی عالم الملائکة، و بذلک نصل إلى نتیجة - طبق القاعدة الفلسفیة - التی تقول ان الملائکة یجب أن یکونوا موجودات مجردة، لأن عدم التغیر و التحول یتنافى مع کون الموجود مادیاً.
معنى کون الملائکة ذوی أجنحة:
ورد فی الآیة الأولى من سورة فاطر أن الملائکة لهم أجنحة، و لکن وفقاً للقرائن و الشواهد و الموارد الأخرى، فلیس المراد بالأجنحة ما هو المتعارف منها و هو الأجنحة المادیة، و إن الآیة الشریفة تأوّل کما تأوّل آیات کثیرة فی القرآن الکریم، مثل قوله «وَ جَاءَ رَبُّکَ» و حیث أن وجود الحق مجرد فلابد من تأویل قوله «وَ جَاءَ رَبُّکَ» بمعنى (و جاء أمر ربک). أو کما فی قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»[7]فلیس المراد الاستواء الظاهری، و إنما المقصود بالاستواء (الاستیلاء)، و إن المراد من العرش هو الوجود و العالم[8] و المقصود أن الواجب تعالى یستولی على جمیع عالم الوجود و یحیط به، إضافة إلى أن عروج الملائکة و قربها من الله سبحانه دلیل على تجردهم.[9] و لو أنهم کانوا مادیین فلابد لمحل عروجهم أن یکون مادیاً أیضاً، و علیه فإن معنى الأجنحة المنسوبة إلى الملائکة هو إشارة إلى مراتب قربها و قدرتها.
راجع للاطلاع بشکل أوسع:
1. ابن سینا، الإشارات، النمط السادس، فصل10-14.
2. مصباح الیزدی، معارف قرآن" معارف القرآن"، ص283 و 319.
3. الفلسفی، محمد تقی، معاد از نظر روح و جسم "المعاد روحاً و جسداً"، ص75 و 112.
4. المجلسی، بحار الأنوار، ج59.
5. نهج البلاغة، خطبة 91.
6. الجعفری، محمد تقی، تفسیر نهج البلاغة، ج2، ص16.
7. السهروردی، حکمة الإشراق، القسم الثانی، المقالة الأولى، الفصل الرابع –
8. مصباح الیزدی، المنهج الجدید فی تعلم الفلسفة، ج2، الدرس41.
[1] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج59، ص202 و ما بعدها.
[2] نفس المصدر، 204 إلى 206.
[3] نفس المصدر، ص 206.
[4] العلامة الطباطبائی، نهایة الحکمة، المرحلة الثانیة عشر، ص313 و ما بعدها.
[5] العلامة الحلیّ، شرج التجرید، ط بیروت، المقصد الثالث، المسألة الرابعة، ص387.
[6] الصافات، 164.
[7] طه، 5.
[8] انظر: تفاصیل معانی العرش و الکرسی فی القرآن، فی السؤال رقم254.
[9] «تَعْرُجُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ»، المعارج، 4.