Please Wait
6619
یوجد فی المصادر الدینیة ما یدل على ان سبب اعراض السید المسیح (ع) عن الزواج یعود الى عدم قناعته به، و انه مخالف لاصل الزواج، و لکن التأمل فی المصادر الدینیة و التأکیدات القرآنیة على الزواج و أهمیته على المستویین الفردی و الاجتماعی و کذلک ما ورد فی الروایات من الحث علیه و بیان ثماره، کل ذلک یکشف لنا ان السید المسیح (ع) لم یکن مخالفا لاصل الزواج، بل کان اعراضه عن الزواج یعود الى شروط و ظروف خاصة و المحیط الذی یعیش فیه، اشرنا الى بعضها فی الجواب التفصیلی.
من السنن البشریة الحمیدة التی رافقت الانسان منذ الایام الاولى لوجوده على ظهر الارض، سنّة الزواج. و لعل هذه السنّة هی الوحیدة التی حظیت بالدوام و الشمولیة فی حیاة الانسان على مرّ التاریخ؛ و ذلک لانسجامها مع الفطرة انسجاما تاماً و لدورها البارز فی تکامل الانسان و اعداده الاعداد الصحیح بالاضافة الى دورها الفاعل فی اشباع الغریزة الجنسیة و تأمین بقاء النسل البشری و استمراریته على ظهر هذا الکوکب.
ولقد اشار القرآن الکریم مرّات عدیدة الى أهمیة الزواج و بیان الاهداف و الثمار المترتبة علیه، رافضا ذلک الفکر الافراطی الذی یرى الزواج مانعا عن تکامل الانسان و رقیه المعنوی و الاخلاقی، و معتبراً ذلک من الافکار المغایرة لسنة الانبیاء و الرسل، و هذا ما اشارت الیه الآیة الکریمة "و لَقَدْ ارْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِکَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ ازْواجاً وَ ذُرِّیةً ...". [1] و [2]
و من الضروری الالتفات الى القضیة التالیة و هی: ان التشریعات التی اصدرتها السماء تنقسم الى طائفتین، طائفة منها ثابتة و غیر قابلة للتغیر و التحول على مر العصور و الازمان و على الانسان الالتزام بها دائما؛ کالعبادات الواجبة و المحرمات، و الطائفة الاخرى هی التی اوصت الشریعة بها لکن لا على نحو الوجوب و انما جلعتها ضمن دائرة المستحبات [3] ، و هذه تابعة للظروف الموضوعیة للفرد او الجماعة. و هنا یستطیع کل فرد ان یقدر الامور حسب مصلحته الشخصیة او الاجتماعیة، فالزواج على سبیل المثال و ان کان أمرا محمودا فی ذاته و قد حثت الروایات علیه، لکنه فی الوقت نفسه یرتبط بروحیة الافراد و مدى استعدادهم للدخول تحت هذه المظلة، فتجد هناک من له استعداد للدخول فی هذه الدائرة، بل لم یقتنع بزوجة واحد، و هناک من یعرض عنه اعراضا تاما، و لا یعنی ان المعرض عن الزواج قد اقترف محرما او صدرت منه معصیة او انه یعیش مزاجا نفسیا منحرفا!! و لا ان العزوبة تعد عائقا یمنع الانسان من القیام بهمامه و مسؤولیاته الواقعة على عاتقه. نعم، اذا قدر المکلف نفسه – انطلاقا من ظروفه البدنیة و الاجتماعیة- ان العزوبة قد تؤدی به الى الانحراف الدینی و الاخلاقی او التخلف عن المسؤولیات و المهام التی ینبغی انجازها، فهنا یجب علیه الزواج کما یقول الفقهاء، و العکس صحیح.
اذا عرفنا هذا نشعر فی بیان الاسباب التی دعت السید المسیح (ع) الى اختیار طریق العزوبة و الاعراض عن الزواج.
الف: الابتعاد عن طلب الدنیا الحاکم على المجتمع
تعرضت الروایات الى بعض الاسباب التی دعت السید المسیح للاعراض عن الزواج، من قبیل:
1. قَالَ الصَّادِقُ (ع): قیل لعیَى ابْنِ مَرْیَمَ مَا لَکَ لا تَتَزَوَّجُ؟ فقال: و ما أَصْنَعُ بِالتَّزْوِیجِ؟ قالُوا: یولَدُ لَکَ؟ قال: و ما أَصْنَعُ بِالأَوْلادِ إِنْ عَاشُوا فَتَنُوا وَ إِنْ مَاتُوا حَزَنُوا. [4]
2. رُوِیَ عَنِ الْمَسِیحِ (ع) أَنَّهُ قَالَ لِلْحَوَارِیِّینَ أَکْلِی مَا أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ شُرْبِی مَاءُ الْفُرَاتِ بِکَفِّی وَ سِرَاجِیَ الْقَمَرُ وَ فِرَاشِیَ التُّرَابُ وَ وِسَادَتِیَ الْمَدَرُ وَ لُبْسِیَ الشَّعْرُ لَیْسَ لِی وَلَدٌ یَمُوتُ وَ لَا لِیَ امْرَأَةٌ تَحْزَنُ وَ لَا بَیْتٌ یَخْرُبُ وَ لَا مَالٌ یَتْلَفُ فَأَنَا أَغْنَى وُلِدِ آدَم. [5]
اتضح مما مرّ أن هذه الروایات غیر ناظرة الى اصل الزواج؛ و ذلک لما ورد فی الآیة 38 من سورة الرعد من ان السنة الالهیة جعل الازواج للانبیاء (ع) "وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِکَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّیَّة". [6] من هنا لابد من حمل الکلام على انه موجه للمخاطبین الذین انغمسوا فی الملذات و الشهوات و کان الخروج من هذا المستنقع بالنسبة الیهم صعب جدا، من هنا جاء کلام عیسى (ع) لیبین لهم أن الانسان بامکانه التخلص من ذلک المستنقع الخطیر، لا انه بصدد ذم الزواج و تشکیل الاسرة و انجاب الذریة.
و الجدیر بالذکر أن القرآن الکریم مع تأکیده التام على الزواج و تکوین الاسرة لم یغفل کون الاولاد و الازواج فتنة یفتتن بها الرجل، کما فی قوله تعالى: "یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِکُمْ وَ أَوْلادِکُمْ عَدُوًّا لَکُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحیمٌ * إِنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظیمٌ". [7] و مما لاریب فیه أن الآیات المبارکة لم تکن بصدد ذم أصل الزواج و تکوین الاسرة، کما انها لیست بصدد الکسب و جمع المال الحلال، بل هی بصدد ذم التعلق المفرط بالاولاد و الازواج و المال بنحو یؤدی الى انحراف الانسان من السیر الصحیح.
ب: قصر عمره و کثرة اسفاره التبلیغیة
السبب الذی أدى الى اطلاق لقب المسیح على النبی عیسى (ع) هو سیاحته و کثرة اسفاره لاجل العبادة و الانقطاع و التبلیغ، و من هنا قیل " سمی مَسِیحاً لأَنه کان یَمْسَحُ الأَرض أَی یقطعها" [8] و قیل أیضا: ان عیسى (ع) " کان یَذهبُ فی الأَرض فأَیْنَما أَدرَکَه اللَّیْلُ صَفَّ قَدَمَیْه وصَلَّى حتّى الصّباحِ " [9] و فی روایة اوردها الطبرسی عن أمیر المؤمنین (ع) فی رده على الیهودی أکد (ع) فیها سیاحة السید المسیح فی الارض. [10]
إذن، الدلیل الآخر الذی یمکن اقامته على عدم زواج السید المسیح (ع) قصر عمره و سیاحته فی الارض و کثرة اسفاره، و مع کون الزواج أمراً محبذاً الا انه لیس بواجب ذاتا، فمن هنا عندما یتعارض مع أمر أهم منه عندئذ یکون من الطبیعی تقدیم ذلک الامر الاهم علیه، و قد یکون السید المسیح قد شخص ان الاولویة فی حیاته للتبلیغ و السیاحة و عدم الارتباط بمسؤولیات الزواج و الاسرة التی تأخذ منه وقتا کبیراً یمنعه من مواصلة مهمته الکبرى.
ج: عقیدة النصارى فی هذه القضیة
تعرض الشهید المطهری الى عقیدة النصارى فی قضیة عدم زواج السید المسیح قائلا: " ادخل النصارى فکرة منحرفة یعللون من خلالها اعراض السید المسیح عن الزواج و هی ان المرأة عنصر شیطانی صغیر و انها سبب الذنوب و المعاصی! و ان المسائل الجنسیة تمنع من التکامل المعنوی و الارتقاء الروحی. فهم یرون أن الرجل – لوحده- مبرء من الوقوع فی الذنب و انما الذی یوسس له ذلک الشیطان الصغیر المسمى بالمرأة فیجره الى الوقوع فی المعاصی و الذنوب. و کذلک یعتقد النصارى بان اصل محنة آدم (ع) بدأت من هذه النقطة و ذلک ان الشیطان لم یتمکن من اختراق شخصیة آدم و النفوذ الى داخله و لکنه استطاع خداع حواء و من خلالها تمکن من خداع آدم (ع) و قد أکد التاریخ – على مر العصور و الاجیال- ذلک حیث کانت الغوایة تنطلق من المرأة حیث یجعلها الشیطان الاکبرُ وسیلة للاغواء و الانحراف. هذه هی عقیدة النصارى فی سبب اعراض المسیح عن الزواج.
و لکن القرآن الکریم یقف موقفا مخالفا للرؤیة المسیحیة فی قضیة آدم و حواء و اغواء الشیطان لهما حیث لم یجعل الغوایة اولا لآدم و بالتبع لحواء، بل یلقی بالمسؤولیة علیهما معا؛ لان الخطاب و الحرکة الشیطانیة کانت موجهة لهما على حد سواء " فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّیْطانُ لِیُبْدِیَ لَهُما ما وُورِیَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاکُما رَبُّکُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَکُونا مَلَکَیْنِ أَوْ تَکُونا مِنَ الْخالِدینَ * وَ قاسَمَهُما إِنِّی لَکُما لَمِنَ النَّاصِحینَ * فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما". [11] فالقضیة لم تختص بحواء فقط، و لعل هذا هو السبب الذی جعل القرآن الکریم یقرن دائما بین المتطهرین و المتطهرات بل یشیر احیانا الى أفضلیة مکانة المرأة و تقدمها على الرجل. [12]
و الجدیر بالذکر بانه یوجد فی اوساط النصارى اختلاف حول هذه القضیة، بل نجد فی الوسط المسیحی من یحرم الطلاق و یعلل اعراض السید المسیح (ع) و حوارییه عن الزواج باسباب اخرى غیر التی ذکرناها.
د: التفریق بین الاولیاء الالهیین و عامة الناس فی التکلیف
من التبریرات التی ذکرت لهذه القضیة هی التفریق بین الاولیاء الالهیین و بین عامة الناس، فقد یکلف الاولیاء الالهیون بسبب منزلتهم و مسؤولیاتهم الخاصة، بتکالیف یختلفون فیها عن عامة الناس، کما فی وجوب صلاة اللیل على رسول الله (ص)، فعن عن عمَّار السَّاباطیِّ قال: کُنَّا جلوساً عند أَبی عبد اللَّه (ع) بمنًى فقال لهُ رجلٌ: ما تقول فی النَّوافل؟ فقال: فریضةٌ. قال: فَفَزِعْنَا و فَزِعَ الرَّجُلُ! فقال أَبو عبد اللَّه (ع): إِنَّما أَعنی صلاةَ اللَّیْلِ على رسول اللَّه (ص). [13] و کذلک زهد أمیر المؤمنین (ع) و الحال انه یقول: " أَلَا وَ إِنَّکُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِکَ وَ لَکِنْ أَعِینُونِی بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَاد". [14] و لعل اعراض السید المسیح (ع) عن الزواج منطلقا من هذه الحیثیة.
[1] الرعد، 38.
[2] لمزید الاطلاع انظر: اهمیة الزدواج و فلسفته سؤال 2891 (الموقع: 3863) .
[3] یندرج الزواج ضمن دائرة المستحبات بالحکم الاولی و لکن قد یجب او یحرم لاسباب اخرى.
[4] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 14، ص 238، ح 15، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ق.
[5] نفس المصدر، ج 67، ص 314، ذیل الحدیث 19.
[6] الرعد، 38.
[7] التغابن ،14- 15.
[8] ابن منظور، لسان العرب، ج 2 ص 492، دار الفکر، بیروت، 1414ق.
[9] الواسطْ الزبیدْ، سید مرتضی، تاج العروس من جواهر القاموس، ج 4 ص 98، دار الفکر، بیروت، 1414ق.
[10] انظر: الطبرسی، احمد بن علی، الاحتجاج، ج 1، ص 225، نشر مرتضی، مشهد المقدسة، 1403ق.
[11] الاعراف، 20- 22.
[12] انظر: المطهری مرتضی، مجموعه الآثار، ج 17، ص 402، انتشارات صدرا، قم، 1383 ش.
[13] الطوسی، محمد بن حسن، َتهذیب الأحکام، ج 2، ص 242، ح 28، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365ش.
[14] انظر: الامام علی (ع) نهج البلاغة، ص 52، انتشارات دار الهجرة، قم.