Please Wait
8470
إنّ إیضاح العلاقة بین الدین و الثقافة تتیسر فی إطار المعرفة الدقیقة لأهداف و غایات الدین و الثقافة.
ینکر البعض أی علاقة بین الدین و الثقافة و لکن هذا الرأی لا اعتبار له.
و أنه من البدیهی أن قسماً من الثقافات لا تنسجم مع أهداف الأدیان السماویة العلیا الرامیة إلى هدایة الإنسان و العروج به إلى قمة الکمال، و لذلک لم تکن هذه الثقافات مورد قبول الدین و لن تکون، و لکن الکثیر من الثقافات تنسجم مع أهداف الدین، فهی مورد تأیید و قبول من قبل الأدیان. و من جهة أخرى فإن الکثیر من الثقافات ولدت و نشأت فی ظل القیم الدینیة.
للدین معان مختلفة و متعددة فی اللغة؛ مثل الجزاء، الطاعة، القضاء و الحکومة، و من المعانی المستعملة غالباً معنیان: الطاعة و الجزاء، و ذلک بشهادة کتب اللغة و تفسیر الآیات القرآنیة، کما یستعمل أحیاناً بمعنى القرض، و الحساب و الحکم.[1]
ففی معنى الطاعة قوله تعالى: «لا إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ»[2]، و فی الجزاء مثل قوله: «مَالِکِ یَوْمِ الدِّینِ».[3]
و أما فی الاصطلاح فمعنى الدین کما یقول الراغب الأصفهانی: استعارة من الشریعة،[4] و بتعبیر الفاضل المقداد، الطریقة و الشریعة، أی الطریق و القانون.[5]
و العهد الإلهی الذی یدعوا أصحابه لقبول الأحکام التی تبلغ للرسول (ص) و تکون فی حوزته. و هذا هو المعنى العام للدین الذی یطلق على کل القوانین الإلهیة و السماویة التی تبلغ إلى الناس عن طریق الأنبیاء.[6]
و بعبارة أخرى، الدین هو مجموعة العقائد و الأخلاق و الأحکام.[7]
و أما المعنى الخاص للدین، أو دین الحق المرضی عند الله فهو الإسلام کما صرح القرآن بذلک: «إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ»[8].
و الثقافة من المفاهیم الکلیة و الواسعة فی میدان العلوم الاجتماعیة و لذلک عرفت بعدة تعاریف.
اما معناها فی اللغة فهو: الأدب، العلم، المعرفة.[9]
و أما فی اصطلاح العلوم الاجتماعیة فقد قیل: الثقافة تعنی، العلم و الأدب، الآداب و السنن، الأعراف المتداولة بین کل قوم و أمة- أعم من العلوم و الأعراف و الآداب و السنن- التی یعمل بها أفراد الأمة فرداً فرداً و یثبتون على العمل بها.[10]
أو أن الثقافة تعنی مجموعة العلوم و الفنون و الأفکار و العقائد و الأخلاق و المقررات و القوانین و الآداب و الأعراف.[11]
و إن ما یتعلق بالتساؤل عن طبیعة العلاقة بین الدین و الثقافة، و هل أنها موجودة أم لا؟ و إذا کانت العلاقة موجودة، فهل إن الدین و الثقافة متحدان؟ و هل أن الدین جزء من ثقافة أیة أمة، أو الدین بذاته یوجه الثقافة و یصنعها؟
و بالتوجه إلى التعاریف المختلفة للثقافة فإن الإجابة عن مثل هذه التساؤلات وقعت مورداً للاختلاف.
یرى البعض أنه لا علاقة للدین بالثقافة، لأن الثقافة تمثل المیراث الاجتماعی للأمة و تنطوی على جانب قومی، و تتکون إثر التکامل الطبیعی و التدریجی للمجتمعات، و علیه فالعوامل الطبیعیة و الإقلیمیة لها أثر على الاختلافات الثقافیة، و بعبارة أکثر وضوحاً، إن ما یخلقه المجتمع فی ظل الظروف الطبیعیة و الجغرافیة و حتى التاریخیة و یقدمه إلى بنی الإنسان یطلق علیه اسم الثقافة.
و أما الدین فإنه لیس میراثاً اجتماعیاً، و لم تکن الأدیان من صناعة البشر، و بحسب قول المتکلمین فإن الدین هو النظام الإلهی، و على أساس هذا الفرض فإن الدین منفصل عن الثقافة، إلا أنه مع ذلک یلتقی معها بانسجام.[12]
و بعض أصحاب الفکر و النظر یرون صعوبةً و حرجاً فی إنکار العلاقة بین الدین و الثقافة، و ذلک لأن العدید من مفردات الخطاب الدینی هی نفسها مفردات الخطاب الثقافی، فإذن الکلام فی الدین عن الأخلاق و الاعتقاد، و هذه هی روح الثقافة و جوهرها و إذا کانت الآداب و الأعراف جزءاً من الثقافة، فالشرائع الدینیة لها کلام عن الآداب و الأعراف و الرسوم.[13]
و من الطبیعی أن یوجد الاختلاف بین الثقافات بسبب العوامل الإقلیمیة و الجغرافیة، فلیست جمیع الثقافات بمستوىً واحد. فبعض الثقافات ـ کما فی الجاهلیة ـ کانت تدفن البنات أحیاءً، و البدع و الخرافات التی تنتشر بین الأمم و تتحول مع مرور الأیام إلى عادات و أعراف تندرج فی سیاق ثقافة تلک الأمم.
و من الطبیعی أن لا توجد أی صلة بین الدین و مثل هذه الثقافات، و بعض الثقافات تکون مورد قبول الدین بعد الجرح و التعدیل و فی کثیر من الأحیان یکون الدین أساسیاً فی إرساء قواعد الثقافة.
و بالنسبة لظهور الدین، فإن تاریخ الأدیان حاکٍ و شاهد على أن الدین الجدید یظهر عندما یؤول نظام الدین السابق إلى الفساد و الاضمحلال، أو تفشی الانحراف الأخلاقی و الاجتماعی فی أوساط المجتمع. و على کل حال فإن ظهور الدین الجدید یصاحبه انقلاب فی القیم عادة أو تغییر أساسی فی منظومة القیم فی المجتمع مما یتسبب فی هزة عنیفة للثقافة المهیمنة على ذلک المجتمع، حتى تتخلص من بعض عناصرها و امتداداتها لتستبدل بقیم جدیدة تنسجم و طبیعة التغییر بسبب مجیء الدین أو المذهب الحدیث، و علیه فالدین و المذهب یصنعان الثقافة و یوجدانها بهذا اللحاظ.
و لکن لیس الأمر کذلک على الدوام، فلیس کل دین یأتی معه بثقافة جدیدة، و لکن کل دین یخلق قیماً جدیدة، و هذه القیم تعصف أولاً: بالمکونات الثقافیة القدیمة التی لا تنسجم و توجهات القیم الجدیدة، کما حدث عند ظهور الإسلام حیث قضى على ظاهرة وأد البنات فی الجزیرة العربیة. و ثانیاً: یعالج الدین الجدید القوالب الجامدة و المشوهة الموجودة فی الثقافة القدیمة فیصلحها و یبعث فیها روحاً جدیدة تمنحها الفعالیة و تهذبها من الشوائب، و مثال ذلک الحج قبیل ظهور الإسلام، فإنه کان یؤدى بطریقة مشوبة بألوان الشرک المحض، و لکن الإسلام لم یرفضه أصلاً و لم یدعُ إلى ترکه و إنما احتفظ بنفس العادات و التقالید و الأعراف و لکنه غذاها بقیم جدیدة ذات محتوى و أهداف سامیة. أی أنها تبقى فی إطار الثقافة الجدیدة مع تقویتها و تهذیبها، کمثل عید النوروز فی إیران قبل و بعد الإسلام.
و فی الواقع فإن الدین الجدید لا یأتی بثقافة جدیدة، و إنما یعرض قیماً جدیدة، و على أساس هذه القیم تصنع المجتمعات ثقافات جدیدة، و بعد أن تتولد ثقافة جدیدة على إثر قیم الدین الجدید، فالدین یعتبر جزءاً من ثقافة المجتمع إذن.[14]
و النقطة الجدیرة بالذکر: ما یقال من أن مجیء دین واحد إلى أمم و أقوام مختلفة یشکل باعثاً لظهور ثقافات مختلفة على أساس قیم الدین الواحدة، و هذا تصور خاطئ، فالدین عندما یحل فی أی أرض یولد ثقافة واحدة، بل یحکّم الدین قیمه الموحدة على البیئات و الأرضیات المختلفة، و لکن الثقافات المختلفة و بسبب وجود الثقافات القدیمة فیها تولد ثقافات مختلفة، لأن تشکل الهیاکل و القوالب لها ارتباط بالموقع الجغرافی و أسلوب الحیاة.[15]
[1] دائرة معارف التشیع، ج 7، مادة دین.
[2] البقرة، 256.
[3] الحمد، 4.
[4] راغب الأصفهانی، مفرادت ألفاظ القرآن، ص 177، مادة دین.
[5] فاضل مقداد، شرح الباب الحادی عشر، ص 2.
[6] دائرة معارف التشیع، ج 7، مادة دین.
[7] جوادی الآملی، عبد الله، الفطرة فی القرآن، ج 12، ص 145.
[8] آل عمران، 19.
[9] معین محمد، ثقافة المعین، ج 2، مادة ثقافة.
[10] الحسینی الدشتی، السید مصطفى، المعارف و المعاریف، ج 8، مادة ثقافة.
[11] سعیدیان، عبد الحسین، دائرة المعارف الجدیدة،، ج 4، مادة ثقافة.
[12] رزنامة السلام، 15/7/1371، ص10.
[13] المصدر نفسه.
[14]رزنامة عالم الإسلام، 1/2/1373، ص10.
[15] المصدر نفسه.